بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاةُ والسلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
– السّيد الوالي (أو العامل)؛
-السّيد قائد الحامية العّسكرية؛
-السّيد رئيس مجلس الجهة؛
-السّيد رئيس المجلس الإقليمي؛
-السّيد رئيس المجلس الجماعي؛
-السّادة البرلمانيون نوابا ومستشارين؛
-السّيدات والسّادة المنتخبون، أعضاء المجالس المنتخبة؛
-السّادة رجال السّلطات القضائية والإدارية والأمنية والعسكرية والسّادة رؤساء المصالح اللاممركزة؛
-السّيدات والسّادة المنتمون لأسرة المقاومة وجيش التحرير؛
-السّيدات والسّادة ممثلو الهيئات السّياسية والمنظمات النقابية والحقوقية ونشطاء المجتمع المدني والعمل الجمعوي ومبعوثوا وسائل الإعلام والاتصال؛
-الحضور الكريم؛
خلدُ الشَّعبُ المغربي وفي طليعته نساءُ ورجالُ الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير من 16 إلى 18 نونبر 2023 الذكرى الثامنة والستين للأعياد المجيدة الثلاثة: عيد العودة وعيد الانبعاث وعيد الاستقلال، وهي أيام غراء وعظام تؤرخ للعودة المظفرة لبطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس والأسرة الملكية الشريفة من المنفى السحيق إلى أرض الوطن، معلنا نهاية عهد الحجر والحماية وإشراقة شمس الحرية والاستقلال.
ونحن نحتفي بهذه الذكرى الغراء والمحطة المفصلية والفارقة في تاريخ المغرب المعاصر، نستحضر المواقف الخالدة لنساء ورجال أوفياء مخلصين لم يتوانوا لحظة واحدة في الاستجابة لنداء الوطن، مؤدين دورهم النضالي والوطني باستماتة ورباطة جأش، فكتبوا بدمائهم الطاهرة أروع صفحات المجد والسؤدد والخلود، ستظل موشومة في الذاكرة الجماعية مؤكدة على الأواصر المتينة والوشائج القوية التي جمعت وتجمع القمة بالقاعدة، وتجسد بالدليل القاطع والبرهان الساطع تلاحم كافة أفراد الشعب المغربي وهم يواجهون الوجود الاستعماري ويدافعون عن حمى الوطن وحياضه ومقدساته الدينية وثوابته الوطنية.
وهي مناسبة لنا جميعا وللناشئة والأجيال الجديدة على وجه الخصوص لاستلهام دروسها وعبرها لتتربى على حب الوطن ويتقوى في نفوسها الاعتزاز بالانتماء الوطني، وهي كذلك فرصة لترسيخ قيم الوطنية الحقة والمواطنة الايجابية في وجدانها وأذهانها، في سياق وافق إعدادها وتأهيلها لمواجهة تحديات الحاضر ولكسب رهانات المستقبل.
وهي تنتصب من جانب ثاني برهانا ساطعا على إجماع كل المغاربة قمة وقاعدة وتعبئتهم للتغلب على الصعاب وتجاوز المحن. وتظل الميزة الأساسية لهذا الكفاح البطولي كامنة في تلك اللحمة والارتباط الوثيق للتشبث بمقدسات الوطن وثوابته كما برهن عنها المغاربة بمختلف شرائحهم الاجتماعية وانتماءاتهم المجالية والفكرية والسياسية في مسيرات الاستقلال الوطني والوحدة الترابية والبناء والنماء وإعلاء صروح مغرب اليوم.
الحضور الكريم،
إن عظمة هذه الذكرى بأيامها المجيدة الثلاثة تستوجب، بل تحتم علينا أن نقف وقفة تأمل وتدبر في تاريخ المغرب الغني بالأمجاد والروائع والمكارم والتي نستحضر منها معركة سيدي بوعثمان سنة 1912 ومعركة لهري بالأطلس المتوسط سنة 1914 ومعركة أنوال بالريف سنة 1921 ومعركتي بوغافر بورزازات وجبل بادو بالرشيدية سنة 1933 وانتفاضة آيت باعمران سنة 1958 وسلسلة المعارك البطولية لجيش التحرير بالجنوب المغربي بين سنتي 1957 و1960، وغيرها كثير من المعارك والانتفاضات الشعبية ضد التسلط الاستعماري، كما لم يتأتَّ لسلطات الاحتلال الأجنبي، التفريق بين أبناء الوطن الواحد بإصدارها ما سمي بالظهير البربري في 16 ماي 1930 أو محاولة استمالة قبائل آيت باعمران والقبائل الصحراوية وتجنيسها رغم وسائل الترهيب والترغيب التي استخدمتها لحملها على الرضوخ والاستسلام لإرادتها، حيث أظهر أبناء هذه المناطق تمسكهم بمغربيتهم ووفائهم وإخلاصهم لروابط البيعة التي جمعت على الدوام أجدادهم وآباءهم بملوك الدوحة العلوية وكل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ قرون.
وفي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وجدت الإقامة العامة للحماية الفرنسية نفسها في مواجهة إستراتجية جديدة من المقاومة ويتعلق الأمر بالنضال السياسي الذي انطلق من المدن لتمتد ظلاله وشرارته إلى القرى والبوادي بقيادة رجالات الحركة الوطنية الذين عملوا على تأطير الساكنة وتعبئتها ضد الاحتلال الأجنبي لمواجهة الممارسات القمعية عن طريق الاحتجاجات وتوزيع المناشير والبلاغات الصحفية ونشر الوعي الوطني وإلهاب الحماس الشعبي في أوساط الشعب المغربي والشعب الوطني.
وإثر تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944 إلى سلطات الحماية الفرنسية من قبل الوطنيين بتنسيق مع جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله مثواه، تضاعف سعار المستعمر الذي قرر مواجهة الموقف بحملات العنف والترهيب والتصفية الجسدية التي طالت عشرات المتظاهرين في مدن فاس وسلا والرباط ومكناس وغيرها عقب الانتفاضات والمواجهات العارمة التي شهدتها كافة أنحاء البلاد أيام 29 و30 و31 يناير 1944 تأييدا للمطالب العادلة التي تضمنتها وثيقة المطالبة بالاستقلال.
وسيشتد الصراع أكثر بين الإقامة العامة للحماية الفرنسية والقصر الملكي إثر الزيارة التاريخية التي قام بها جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه إلى مدينة طنجة في 9 أبريل 1947 وما تضمنه خطابه التاريخي بها من مواقف وحدوية رافضة للسياسة الاستعمارية وتمسك جلالته بعدم الرضوخ لإملاءات الإقامة العامة للحماية الفرنسية، فكانت مواقفه الرافضة لكل مساومة سببا في تأزم الوضع وشروع المستعمر في تدبير مؤامرة الفصل بين الملك وشعبه. وقد تصدى المغاربة لهذه المؤامرة التي تبدت خيوطها في منذ بداية غشت 1953 حيث وقف المراكشيون بالمرصاد يومي 14 و15 غشت 1953 لمنع تنصيب صنيعة الاستعمار ابن عرفة، كما انطلقت انتفاضة 16 غشت 1953 بوجدة وبعدها بتافوغالت يوم 17 غشت 1953، ومظاهرات وادي زم وخريبكة وخنيفرة في 19 و20 غشت 1955 وغيرها.
كما عمت مواقف الاستنكار والتنديد بالفعلة النكراء لسلطات الحماية كل ربوع الوطن حينما أقدمت قواتها العسكرية على محاصرة القصر الملكي يوم 20 غشت 1953 منذرة جلالة المغفور له محمد الخامس أكرم الله مثواه بالتنازل عن العرش، ففضل طيب الله ثراه النفي على أن يرضخ لإرادة الاحتلال مصرحا بكل ما لديه من إيمان ويقين وعدالة القضية المغربية بأنه الملك الشرعي للأمة وأنه لن يخون الأمانة التي وضعها شعبه الوفي على عـــاتقه حيث قال قدس الله روحه مخاطبا سدنة الإقامة العامة بشجاعة وشهامة ورباطة جأش: ”إني ملك المغرب الشرعي ولن أخون الأمانة التي ائتمنني عليها شعبي الوفي المخلص، إن فرنسا قوية فلتفعل ما تشاء”.
وما أن عم الخبر في ربوع المملكة وشاع في كل أرجائها حتى انتفض الشعب المغربي انتفاضة عارمة وتفجر غضبه في وجه الاحتلال الأجنبي وبدأ التخطيط للعمل المسلح والمقاومة والفداء، حيث تشكلت خلايا المقاومة الفدائية والتنظيمات السرية وانطلقت العمليات البطولية لضرب غلاة الاستعمار ومصالحه وأهدافه. فمن العمل الفدائي البطولي للشهيد علال بن عبد الله يوم 11 شتنبر 1953 الذي استهدف صنيعة الاستعمار، الى عمليات الشهيد محمد الزرقطوني ورفاقه في خلايا المقاومة بالدار البيضاء وعمليات مقاومين وفدائيين بمختلف مدن وقرى المغرب لتتصاعد وتيرة الجهاد بالمظاهرات التلقائية والانتفاضات الشعبية المتوالية وتتكلل بانطلاق طلائع جيش التحرير بالأقاليم الشمالية للمملكة في ليلة فاتح و2 أكتوبر 1955.
وهكذا دفعت الضربات المتوالية للعمليات الفدائية وانتصارات أبطال جيش التحرير سلطات الاحتلال الأجنبي للدخول في مفاوضات مع المغرب تكللت بحصول البلاد على استقلالها وعودة بطل التحرير والاستقلال إلى ارض الوطن مظفرا منصورا.
وقد أبى جلالته إلا أن يجعل من يـوم 18 يونيو 1954 يومـا للمقاومة والتذكير والاعتزاز بتضحيات كل الشهداء الذين استرخصوا أرواحهم فداء للوطن، حيث قام طيب الله مثواه بوقفته التاريخية يوم 18 يونيو 1956 أمام قبر الشهيد محمد الزرقطوني رحمة الله عليه مجسدا قيم وثقافة الوفاء والبرور والعرفان بتضحيات الشهداء والاعتزاز بنضالات المقاومة حيث قال طيب الله مثواه: “…إن الشعب المغربي مفطور على الاعتراف بالجميل، ولن ينسى عمل أولئك الذين كان لهم فضل المقاومة سواء بالسلاح أو اللسان أو المال، وإنه لجدير بذكرى المكافحين أمثال محمد الزرقطوني وعلال بن عبد الله أن يخصص لهم يوم يكون أحد أيامنا المشهودة لتكون ذكرى لائقة بنضالهم ناطقة بعظمة كفاحهم.” وأضاف قدس الله روحه مشيدا بملاحم المقاومة: “… لقد كنا في منفانا، شهد الله، نتلهف شوقا إلى أخبار مقاومة أبطالنا، فكانت هي أنسنا في نهارنا، وسمرنا في ليلنا، وكان يقيننا راسخا في أن تلك المقاومة، وقد كنا أول من حمل مشعلها، ستظل تستفحل يوما بعد يوم حتى تستأصـل جذور الباطـل، وها نحـن اليوم نستظل بدوحة الحرية التي غرسناها وسقاها فدائيون بزكي دمائهم…” انتهى المقتطف من النطق الملكي السامي.
واستمرت مسيرة الوحدة في عهد بطل الحرية والاستقلال والوحدة جلالة المغفور له محمد الخامس الذي تحقق على يديه استرجاع منطقة طرفاية في 15 ابريل 1958 بفضل العزم القوي والإرادة الصلبة والإيمان الراسخ والالتحام الوثيق بين القمة والقاعدة.
وفي 30 يونيو من سنة 1969، تحققت عودة مدينة سيدي إيفني إلى الوطن الأب بفضل الحنكة السياسية والديبلوماسية لجلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه لتتوالى بعد ذلك مسيرة استرجاع كل أطراف الوطن السليبة وصولا إلى المسيرة الخضراء المظفرة التي انطلقت في 6 نونبر 1975م.
لقد كان استرجاع مدينتي طرفاية وسيدي ايفني، أول الغيث في المسار التحريري، لتستمر بعد ذلك مسيرة التوحيد والبناء تحت القيادة الحكيمة لجلالة المغفور له الحسن الثاني، باني المغرب الحديث ومبدع المسيرة الخضراء المظفرة، الذي جعل قضية استرجاع الأقاليم الجنوبية المغتصبة، وتوحيد الشمال بالجنوب وربط الشرق بالغرب أولى الأولويات، سالكا في ذلك كل السبل والمقتضيات القانونية والوسائل النضالية، مترافعا أمام المحافل الدولية والمنابر الإعلامية وعلى صعيد المنتظم الدولي لإعادة الحق المسلوب وبسط السيادة الوطنية على جزء من التراب المغربي الذي ظل يرزح بدون موجب حق تحت نير الاحتلال الاسباني.
وتكللت جهود جلالته باستعادة الأقاليم الصحراوية إلى الوطن الأب سنة 1975 بفضل المسيرة الخضراء المظفرة التي اعتبرها المراقبون والمحللون السياسيون معجزة القرن العشرين، ورفرفت الراية الوطنية خفاقة في سماء مدينة العيون يوم 28 فبراير 1976 إيذانا بإجلاء آخر جندي أجنبي عن الصحراء المغربية، وفي 14 غشت 1979 توجت الوحدة الترابية باسترجاع إقليم وادي الذهب.
والمناسبة سانحة اللحظة لتؤكد وتجدد أسرة المقاومة وجيش التحرير وقوفها الثابت والموصول وتعبئتها الدائمة وراء صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله من اجل الترافع على قضيتنا الوطنية، قضية الوحدة الترابية وتثبيت المكاسب الوطنية، ويأتي الخطاب الملكي السامي ليوم 6 نونبر 2023 بمناسبة تخليد الذكرى 48 لانطلاق المسيرة الخضراء المظفرة في توقيته ومضامينه ليؤكد مرة أخرى على وضوح الرؤية والمسار بعد 48 عاما بمغزى ورمزية الاحتفال بهذه الذكرى، عبر الانتقال من مسيرة لاستكمال الوحدة الترابية، إلى مسيرات للتنمية والتحديث والبناء غايتها وفق تأكيدات جلالته حاضرا ومستقبلا على تكريم المواطن، وحسن استثمار المؤهلات التي يتوفر عليها المجال الترابي لبلادنا بما في ذلك الصحراء المغربية. حيث قال جلالته: “لقد مكنت المسيرة الخضراء، التي نحتفل اليوم بذكراها العزيزة، من استكمال الوحدة الترابية للبلاد. ووفاء لقسمها الخالد، نواصل مسيرات التنمية والتحديث والبناء، من أجل تكريم المواطن المغربي، وحسن استثمار المؤهلات التي تزخر بها بلادنا، وخاصة بالصحراء المغربية. وقد مكن استرجاع أقاليمنا الجنوبية، من تعزيز البعد الأطلسي للمملكة. كما مكنت تعبئة الدبلوماسية الوطنية، من تقوية موقف المغرب، وتزايد الدعم الدولي لوحدته الترابية، والتصدي لمناورات الخصوم، المكشوفين والخفيين”. انتهى المقتطف من النطق الملكي السامي.
فهنيئا وطوبى لنا بهذه الذكرى الخالدة، وتحية تقدير وإكبار لضباط وضباط الصف وجنود القوات المسلحة الملكية والقوات المساعدة والدرك الملكي والأمن الوطني وإدارة الجمارك والوقاية المدنية والإدارة الترابية وكل المرابطين على الحدود وفي الثغور على ما يبذلونه من جهود جبارة وتضحيات جسام في سبيل استتباب الأمن والطمأنينة والاستقرار بأقاليمنا الصحراوية المسترجعة والحفاظ على أرواح المواطنين وممتلكاتهم.
رحم الله شهداء الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والوحدة الترابية، شرفاء الوطن وأبطاله الغر الميامين وأبنائه الأوفياء المخلصين، وفي طليعتهم بطل التحرير والاستقلال والمقاوم الأول جلالة المغفور له محمد الخامس، ورفيقه في الكفاح والمنفى، مبدع المسيرة الخضراء وموحد البلاد، جلالة المغفور له الحسن الثاني رضوان الله عليهما، وحفظ الله بالسَّبع المثاني وبما حفظ به الذكر الحكيم صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وأسدل عليه أردية الصحة والعافية وحقق به وعلى يديه كل ما يصبو إليه وينشده شعبنا ووطننا من بناء ونماء وتقدم وازدهار ورفاه اجتماعي وحماية اجتماعية وأمن واستقرار، وأقر عينه بولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير المحبوب مولاي الحسن، وشد أزره بشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد وكل أفراد الأسرة الملكية الشريفة والشعب المغربي قاطبة من طنجة إلى الكويرة.
إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وإنه نعم المولى ونعم النصير.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.