في(معلقات سجلماسة)للشاعرعبدالله الطُنّي
د. مصطفى الشاوي
“لاعِشْقَيَدومُإلاّفيالأَعالي”
لاغروأنللشعرطعماخاصا،وإحساسامميزا،كتابةوقراءة،لايدركهإلامنسكنتهالقصيدةوتملكهعشقهاتملكاقويا،والشعرالجميلهوالذيبهنشعر،وما دونهخرطالقتاد،فالشعرمنطلقالجمالومنتهاه،ومنأرادأنيلتمسسبلالجمالفي غيرهفلهمنذلكنصيبغيرمنقوص؛فماالشاعرالمسكونبأسرارالجمال الشعريبفاعلبعدهذاوذاكعداأنيسلممهجته،منحيث يدريأولايدري،لحروفهالساحرة،وقوافيهالنافرة،ويعزفعلىوترالغيابسمفونيةالأشجان،معتلياصهوةالحروفالنافرة،توقانحوعوالمأحلىوأبهى،حتىإذاماصحامأخوذابجمالاللحظة، وجدالشعرعندهفوفّاهمراده،وإذاماأصابالزمانَالبِلى،وانقضىمافيالعمرمنبقية،ظلالشعرنابضابالحياة،يبرئالكليلويهديالضليلسبلالجمال والكمال.
وكثيرةهيالأشعارالتياستلهمتمتخيلهامنالأمكنةعبرالأزمنةالتاريخيةحتىغداالمكانعنصرابنائياوفنياوجمالياأساسيافيالشعر،وباتلزاماالقولمعه،بقدرمايُحِبُّالإنْسانُالمكانَيتَمَلّكُه؛وإذاكانالشاعرمنذالقدمقدوقفعلىالرسموالطلل،منذكرىحبيبومنزل، وقَبَّل ذا الجدارَ وذا الجدارَ،فإنهذا الهاجسعبرالتاريخظلقائما،وإناختلفتالأزمنةوتعددتالأمكنة، وتباينتالحساسياتالشعرية،وتغيرتالأشكالوالأفكاروالرؤى؛ولعلالمتتبعللشعرالعربيالحديثوالمعاصربالمغربوالمشرقيجدنماذجراقيةتستحقمنالقارئالناقدالوقوفعندهابالدراسةوالتحليل. نقففيهذهالقراءةمعالشاعرعبداللهالطُنيفيديوانهالموسومب(معلقاتسجلماسة)ومعرحلتهالشعريةالمدهشةإلىأعاليسجلماسةوبطونهاالمرابطةبالمغربالحبيب،وصحاريالجنوبوواحاتها،وتاريخالأمكنةوأسمائها،وأعرافالقبائلوثقافتها،وجماليةالأفضيةوسحرها. وهيرحلةأرادهاالشاعرأنتكونمتعددةالأبعاد،ومتشعبةالمسالك،ومختلفةالأشكالوالألوان،فجاءتمدهشةوفيّةلماخلقتله؛وإذاكانالديوانغنيافيامتدادهفإننصوصهالشعريةمفتوحةعلىإمكاناتقرائيةمتعددة،ونحنحيننعتمدإمكانامنهذهالإمكاناتنعيبكلتأكيدأننالننستوفيهحقهوماينبغيلنا،كمالنندركالكشفعننسيحمضامينهالشعرية.وكيفلناأننفكشفرةشدوالطائرالطنّانوهومأخوذبعشقالأعاليوشهقةالجبالوتولهالوصال؟
يتألفالمركبالإضافيالمشكلللعنوانمنكلمتين؛الأولىذاتبعدتاريخيوفنيوجمالي،والثانيةذاتبعدجغرافيمجاليووطني؛ذلكأنالمعلقاتتحيلالقارئعلىنماذجراقيةمنالشعرالجاهليلهامكانتهاالتاريخيةوقيمتهاالفنيةورمزيتهاالثقافيةوالجمالية،فهيتشكلتراثاحضاريايعلوولايعلىعليه،لقيمتهاالأدبية، ولماترمزإليهفيموروثناالشعريمنرفعةالذوق،وقوةالصمود،ولاأدلعلىذلكمنكونهااستطاعتأنتقاومالبلىعبرالزمنالطويل،وتظلحاضرةومتألقةومبهرة.والمعلقاتفيالعنوانإطلاقدلالييحيلعلىقصائدالديوانالتي”عَلَّقَتْـ يقول الشاعرفيمستهلالتقديم ـ قلبيعاليا”،ولكلهذهالاعتبارات،وغيرهاكثير سيأتي ذكرها،ينعتالشاعرقصائدهبالمعلقات.
يتكونالديوانمنإحدىعشرةمعلقة/قصيدة:معلقةالأطلال،(عنحروفسجلماسةتحكي)،معلقةتُدْغت (جناتتنغير)،معلقةإكْطاط(شهواتتنجداد)،معلقةأزقور(حدثتنيالريحبالنيفقال)،معلقةالوفاء (منأوحىلتلكالنخلةأنيعشقها)،معلقةالكثبان(امرؤالقيسفيتازرين)،معلقةالنصر(ومنقيظزاكورةأحلامالنخيل)،معلقةالوطن(تِلْواحنُغْبالو)،معلقةمكونة(وردهاالدمشقييعرفني)،معلقةالشمس(عنشمسورزازاتتحكي)،ومعلقةآيتحاحو(صهواتالريش).وإذاكانالديوانغنيابنصوصهفإنالثراءسمةمميزةلهذهالنصوص،إذيلاحظالقارئتعددالعناصرالتيتعكسجوهرالشعرعندالشاعرعبداللهالطني،ونقترحالنظرإلىالتّجَوْهُرالشعريانسجامامعقولهفيأحدنصوصالديوان:
فماالشعرُياعَبّاسُإنْلمْيكُنْ/صَدىالرّوحِوالْأماكِنِ/والزّمانِالمُبْدَل[i].
استناداإلىهذاالملفوظالشعريالداليستطيعالقارئافتراضالأقانيمالتييتأسسعليهاالتجوهرالجماليعندالشاعرعبداللهالطُنّي على الشكل التالي؛ صدىالروح،وصدىالأمكنة،وصدىالأزمنة، وصدى الروح.
- صدىالأمكنة/ التجليوالتجوهر:
يعمدالشاعرإلىتهييئالمكانلاستقبالهفيصورةراقيةوجميلةتليقبمقامه،وفيتجلنورانييعكسجدليةتجوهرالذاتوالموضوع، واندماجهمامعافيبوثقةاللحظةالشعريةالعرفانية،وفيضوءذلكيتمالكشفعننواجدالأمكنة،ومواجدالأزمنة،ومواجعالأفئدة،وكأنلسانحالالشاعر،أوالمكانسيان،يقولهيتلك،فلاضيربعدإنفاضقلبالشاعرإشراقا،وغصالفضاءحضورا،وشعالشعرألوانامنالشهواتوأشكالامنالتَّوَلُّهات،ولاملامةفيذلكمادامالشاعركالساحر،يرىالنورفيالظلام،والعافيةفيالعلة، والخصبفياليباب،والحضورفيالغياب:
ساحِرا، هوالشاعرُ،/يغافلنا،فيرمْشةعينٍ،يطلقهطيوراً/ترفْرف فيالسّماء/وتسرقأعيننامنمحاجرها/كماومتىتشاء/هومثليومثلكياعباس/يتلألأفيالأماكنكلها/نكايةًفيالظلام/ والعلةوالداء[ii].
إذاكانتالحركةدليلالحياةفلاحياةللشاعربدونرحيل،ولاحلولاترحال،ومادامالفعلجوهرالعملفلكلعملتجوهرخاص،ينصهرفيبوثقةالذاتالشاعرةانصهاراكليا،وعلىهذافكلنهوضسليلالوجود،فمنلمينهضلاحياةله؛ولايتوانىالشاعرفيهذاالطلبالمقصودفيذاتهوالمنشودفيغايته،وهيدعوةذاتُبعدفلسفيضمنيحيناوصريحأحياناكثيرة،يخصبهانفسه،ولايستثنيمنهاأحدا؛
اِرْتَحِلْ/فللهفيالأرضِكمْجنّاتٍوجنات/قبلجنَّتهِالموعودةِفيالسماء/ومنْلميرتخلْ/لاجنّةَتأويه/بأرضهأوسماه/اِنْهَضْ،/مِنْمَوْتِكَ، /إنْكُنْتَبَعْدُ،/علىقَيْدِالْحَياة[iii].
يقولالشاعرفيتقديممفصلتصدرالديوان: “وهكذاوزَّعتنيسجلماسةالعاصمةالتاريخيةلتلكالمنطقةعلىجلواحاتهاوقصورها؛فدخلتُتنغيرمعفراًبأريججنّاتها..واستوقفتنيتنجدادبشهواتهاالحالمة..وكلمنيريحالنيف،وخصنيبحكمةالأعالي،ونواميسالسفر..ودخلتالريصانيشاعراعاشقا..وامتطيتكتبانتازرين..واستقبلتنيزاكورةُباذخةًبأصولهاوفصولهاوتاريخهاالتليد.. وباحليلوح “اغبالوانكردوس”،المعلقعلىبابمعتقلقديمهناك،بخباياصمودوتضحياتالوطنيينالمقاومين..وحيتنيقلعة “مكونة” بحدائقهاالغناءووردهاالدمشقي..وأسرتليشمسُورزازاتبماتعرفهمنمدىعشقهالبلادالنوروالسكينة.. وبعدذلكخلّقتبي “الريشُ” عاليابريشهاالذيتراهولاتراهالعين”.
تحتضن “معلقاتسجلماسة” عدةأمكنةوأفئدةوأوردة،وبينهاأفياءمتشاكلة،وأمداءمتباينة،ممايجعلالديوانغنياشكلاومضمونا،يعسرعلىالقارئأنيخرجمنهبفكرةمختصرةمؤطرةلمختلفقصائده،أوباستنتاجاتمحددةلخصوصياتمتنهالشعري،نظرالتشعبشكلوامتدادالنصوص الشجرية والعنقودية،القائمةعلىنظامالمقاطعالشعريةفيالغالبالأعم،وعلى فواصل كثيرة أهمهاالفاصلالخطابي؛بحيثتفننالشاعرتفتناعجيباورهيبافيتتألف عنونةالمقاطعالشعريةالتيتتوزعإليهاكلقصيدةعلىحدة،وهومايجعلهافيذاتهاوفيانفتاحهامترابطة،ويجعلهندسَةنصوصالديوانفيحاجةلوحدهالقراءاتخاصة.
والمكانكتابيقرأهالشاعربعينالعارف،والقارئمطالببأنيهتديبخطىالشاعرويقبضعلىشيءمنأثره،وهوبذلكيكشفعنأسرارالشعر،ويقفعندالرؤىالتييصدرعنهافيجلنصوصهالشعرية،وينبرالشاعرعلىهذاالمعنىقائلاموجهاالكلاملنفسهقبلالقارئ:
إقرأالكتابَفيذاتهبِعَيْنِالشَّمْسِ،/قَبْلَأنْتَقْرَأَهُبِرائِحَةِالْأَرْضِ، /إقْرأبالعينالأخرىكيترى/ففيالقراءةلابدمنالتركيب/يقولُنحاةالْحالِ/ ولكي نجتاز العَتْمَة لا بُدَّ مِنَ التَّحْليلِ،/وكي نتوحد بالمبدأ/ لا بد من الفوق ولا بد من التحت[iv].
ولعلأولأثرتحدثهالأمكنةفينفسيةالشاعروتعكسهنصوصالديوان،يتجلىفيقوةوقعالأسماء؛فمنذاللحظةالأولىفيمطلعالقصيدةتتوهجالذاتتوهحاعجيبا،وقبلالولوجإلىعوالمهاوالاستعدادالعرفانيلاكتشافمكنوناتهاوالتأهبالوجدانيللتفيئبظلالهاالروحيةوالانتعاشبعبقهاالتاريخيوالاستمتاعبشهوتهاودهشتهاوجمالها،نجدالشاعر، “حرّافالحروفوعرّافالأسماء”،يفككبنيتها،ويقرأالاسماءقراءةشعرية،فيُحصيأسرارحروفهاحرفاحرفا،ثميستنطقمكوناتهامعنىمعنى،وينحتمنهاصوراتسعىإلىملاحقةأبعادهاالمتنافرةوأمدائهاالمتعددة،وعاشقايقرأالأسماءفيذاتهاوذاته،كأيقوناتوعلاماتارتسمتعلىجمالالمحيّىالمميزللأمكنة،ومنأمثلةذلكقوله:
(إنكنتعاشقامثلي/لشهوةالأعاليوأقدارالأرض/ومسكونابأحلامالمعلقين/مُرَّبتنغيركمايمرالربيع/فمنمرّبتنغيرمزهراً/تأخذهالتاءإلىخلوتها/تعلقأحلامهعالياكأحلامها/معالمُعَلّقينالعاشقينخلوةالأرض/تتلقفهرويداًرويداً/أدرعُالجبالالممتدَّةنحوالغيمات/حيثللأعلىهيبةٌ/وللطائرِالحُرّمملكةٌ/وللريحملامحالأولينوالآخِرين.)[v]
وأمامدهشةالمكانلايملكالشاعرإلاأنيعبرعنعسراستيعاباللغةللحظةالشعرية،وعسراحتواءالقالبالتعبيريوالأسلوبيللفيوضاتالوجدانية،والتجلياتالدلاليةوالتأويلية،والمضمراتالمعنوية الدّفّاقة؛وهومايؤكدقوةوقعالأماكنعلىنفسيةالشاعرمنخلالأسمائهاالدالةعليها،وماويجعل كلحرفمشكللاسممكانقابلالقراءاتمتعددة،يلاحقهاالشاعربكلماأوتيمنجوامعالكلم،ليقبضعلىقبسمننورهاالوهاج،وسحرهاالأخاذ:
منْيَحْلُمُبالتّحليق/وليسلهأجنحةٌأوريش/فليقصدأرضالرّيشصباحاً/وليقرأْأحْرُفهاحرفاًحرفاً/بكلّلغاتالتحليق/(وهلْتسْتطيعُاللغاتويسْتطيعُالحالمُ/ولوْمجازا،/فكَّحروفالرّيش؟!)[vi]
وينحتتشكيلتضاريسهاعبرعناقيدصورشعريةشتى،يلاحقهاالشاعربماتهيألهمنمجازات،وماطابلهمنكنايات،وماتيسرلهمنانزياحات،وماتذلللهمنكشوفات،تركبالخيال،وتعتليصهوةالقصيد،لتمارسلعبةالصعودإلىالأعلى،والنزولنحوالأدنى،مقتديابسيرةالشمسوضحاها،وسالكادربالسالكينعلىنهجها،منالعارفينوالمفكرينوالشعراءوالفنانينوالفلاسفةالأولينوالآخِرين:
هَلْصَحيحياهِيَركْليط/أنَّالطّريقإلىالأعلى/هو نفسُهالطريقُإلىالأسفلِ؟!/قالَ،هيذيسيرةالشّمسمنذاشتعلت/وإلىأنتنطفي[vii].
- صدىالأزمنة/التَّداخُلوالتّخارج:
يعيدالشاعرللمكان سحره،وللواحةاخضرارالزمان،ويجعلالزمنيذوبفيالعالمالشعري،وينصهرفيبوثقةالرؤيا،ولايتحققذلكإلافيضوءشروطذاتيةوموضوعية؛ فثمةإحساسقوييسكنالذات،ووعيضمنيتؤكدهنصوصالديوان،بانفلاتالزمنالجميل،وبالفقدوالضياعالذيطالالكون،ويتمكلهذاوفقنوعمنالانصهارالكلي،ينفيحدودالأماكنوالجهات،ويوحدجغرافيةالفضاء،بالتحليقوالارتقاءوالفيضالوجداني.وعلىهذاالأساسيبدوالشاعرفيالظاهرمتناغمامعشعرهالساحر،وقوافيهالمطواعة،لايبديتبرماولاضيقا،مادامتالعبارةتسعفهوالحروفطوعبنانهوالجمالعالمهالخاص.ولأنالشاعرعبراللغةالشعريةيعيدتشكيلالعالمجماليا،فهوبالإضافةإلىذلكينظربعينالكاشفوالعارف،ينظرببصيرتهلاببصره،ومنثمةفهيرؤياخاصةمؤطرةفكرياوفنياوجماليا،ولايمكنأنتقارنمعمشاهداتعامةالناس.
وهذاالإحساسبالزهولدىالشاعرعبداللهالطنّيلهمبرراته،إذيرجعإلىالإيمانالقوىبأهميةالرسالةالشعريةالتيهيجوهرالذاتالإنسانية،وإلىالتحكمفيالقصيدةوأدواتهاالفنيةفيأبهىتجلياتها،وإلىاللحظةالشعريةفيأرقىإشراقاتها؛ويستيقظفيوجدانالشاعرالعلمُاليقينُبجوهرالأشياء،ويخيلإليهأنهقدأوتيمنطقالطير،وقبضعلىالمطلقالمنفلتعبرالأزمنة،ومجمعالأبعادفيالأمكنة،فيإقبالهوإحلالهوادباره،وفيماضيهوحاضرهومستقبله،فيموتهوحياتهوبعثه،فيغدوالشاعرمنتشياباللحظةالجذلىكساحريخالأنكلطريدةرهينةُرميتِه،وأنكلشريدةطوع بنانهوكنانه.وليسشاعرا – علىحدقوله – منلميتلونفيرمشةعينبأكثرمنلونين.
كنتُأمامَاللوحِالمسطورِ/مشدوداًبصلاةالأرضتناديني/أحدقفيالسوروفياللوحِوفيالأسماء/يالتَّداخُلوالتّخارُجفيالأزمنة/كيفَيجمعُنيالآنُبالأمسِ؟/كيفبهيفنينيثميحييني؟ [viii]
ووفقهذاالتصورتنصهرالأزمنةوالأمكنة،والأوردةوالأفئدةفيعالمالشاعر،ولاعجبفيذلك،مادامالبحثعنالأصلهوالغايةالمثلى،والتوقنحوالأعاليوالقبضعلىالحكمةهوالنشدانالأسمى،والعزفعلىناياتالحرفالطروبهوالأملالمرتجى؛ولاضيرإنتعددتالألوانوالنسمات،والوسائلوالغايات،وحلقالشاعرفيكلاتجاه،بعيدانحوالسماءليلتمسنهجالسالكين،ويرنوإلىالأعاليفيشموخالجبال،ويضربفيالأرضمسافرامعالريحومعالطيرفيخفتها،مادامالغرضالمعلنوالمبَطّن،أولاوأخيرا،هوالأصلفيالأشياء،والجوهرفيالكون،فيالزمانوالمكان :
وليسشاعراً/منلمْيسافرْمعالريحويستريح/بكلفَجٍّ،وفيظلّهِ/يكتبُالقصيدةالنخْليةَالتي/أصلهامنعيونُالسماء/فالأصلُفيالطائرالغناء/والأصلُفياللوحالكتابة/والأصلُفيالنخلِالوفاء[ix].
وبناءعليه،يأتيالنصالشعريفيالديوانالمقروءشاهدإثباتعلىأنمعدنالشاعرأصيلأصالةالنخلالشامخ،وطبعهنقينقاء هواء الصحراءبرمالها،وفيوفاءالشمسفيضيائها،والقمرفينوره، والشاعرلاينسىمادامالتذكرعقيدته،والصفاءطبعه،والتفكرشريعته،والجوهرفلسفته؛يأتيهذاالبوحمنلدنالشاعركردفعلعناعترافهوإقرارهبأنالنسيانداءتملّكالإنسانوعمالأكوان،حتىغدافيحاجةإلىتدخلعاجل،وهلمنوصفةسحريةغيرالشعرتبطلمفعوله؛
عانَقَنيالرّيحُبهاأهلاًأهلاً، /بِمِلْءِجناحيه/قلتُلهُأهلاًأهلاً/بِمِلْءِجناخيَّ/وغَمْغَمْنامعاً، /وقهقهناوجهاًلوجهٍ/كمالوكنانتداوىمنداءالنسيان/كمالوكنانحكيعنزمنٍيَجْمَعُناونسيناه/فنحنُتوءَمانمنشهوةالأرضتوءمان/ ذا اشتد بها وحَمُ التَّوَلُّهِ والولادة.[x]
يبدوجليا،أنالمكانباعثمنبواعثالقولالشعري،ورافدمنروافدالإبداعوالفنعموما،لابمافيهفيذاته،ولابمايمثلهمنقيمةثقافيةوتاريخيةفحسب،ولكنبمايحدثهفيالنفسمنأثروسحروجمال،فلاعجبإنبدا حاضراأكثرمنغيرهومصدراأساسيامنمصادرالإلهامالشعري.وهكذاهوالشاعرإذاماحلبالمكانأزهربهجة،واهتزسرورا،وامتلأحبورا،وازدانجمالا:
(منلميخلقفيالأرضجنتهبألفبابوباب/ويأتيهاالحالمونمنكلفجٍّ/ولوفيغزالخلاءاليباب/ليسمبدعاولاصاحبمعجزات)[xi]
- صدىالروح/ التذكروالتفكر:
تعكسنصوصالديوانانجذابات شعوريةمختلفة،تجعلالذاتالشاعرةفيخضممنالصراعات، تجسدهاسياقاتالقولالشعري،وتولدهامقاماتالترحلعبرالذاتوالعالممنحولها، وهوصراعيعكسروحالتجوهرعلىمستوياتعدة،منأهمهاجدليةالتذكروالتنكر؛فبالرجوعإلىالوضعيةالتواصليةالتيتؤطرالنصوصالشعريةنجدالمخاطَبوالمخاطِبحاضرينفيالنصمنخلالالضمائرالتيتؤشرعليهمابشكلواضح،لكنالعلاقةبينهماقائمةبقوة، فكلمنهمايحيلعلىالآخر،ففيكثيرمنالسياقاتتُنَزَّلُالذاتُالشاعرةمنزلةالمرسلإليه، والعكسصحيح،وبالتاليفالدعوةإلىالتفكروالتذكيرالتيتسكنصدىالروحرهينةبكليهما،فكلمنهمايشكلذاتاوموضوعا، ووحدة وجود.
والشاعر الذي لا يتوله كلما احتلته مدينة/ ولا يُغنّي لها بقدر ما يستطيع/ قل مات/ الفصلُوصلٌ،والوصلُفصلٌ/أيُّهاالممعنُفيالسّفر/والوصلُوالفصلُجناحاي/-تقولالمسافات – اِركبْجناحيَّمعاً، /وإنْلمْتستطعْ/فسلمْنفسكلِلْحفّار/ قلت لها:/ سأظل فوق جناحيك/ أيتها المسافات/ نكايةٌ في القبر والحفّار[xii].
وكأنيبالشاعروهوينسجالمدلولالشعريالمتحكمفيمختلفنصوصهالشعريةيصدرعنتأثرفلسفي،منحيثيدريأولايدري،بمبادئالعالمالثَّلاثةالأولىعند “أفلوطين”،وهي:الواحد،والعقل،والنَّفسالكُلِّيّة.ويلاحظالقارئحضورالهذاالتصورالثلاثيالأبعاد،لافيروحهوذاتهفحسب،بلفيشكلهوهندسته،وكثيرةهي الشواهدالشعريةالتيتؤكدذلك؛فَفَيْضُالقصيدة – فيتصورالشاعر-الظل،والشدى،والمدى.والعشقعنده صلاة،والعشقكمال، والعشقنهاية. والشعرلفظٌولحْظٌوخيالٌ، ويدرك الشاعر الموجودات بالقلب والعين والحرف، فيلتقي بقلبه الأشعري والنّفّري والغزالي. وأثناء رحلته يضرب في الأرض جامعا أقلامه وألواحه وأحلامه، ومِلْحه وشمسه وأرضه، يسكنه وطن كانَ ووطن اليوم والوطن الذي سيأتي.وقدتختزلالأبعادفيبعدين،ويستمربحثالشاعرعنالأصلفيمختلف مسافاتوانجذاباتالقولوكأنهاحكمةينشدها،أوصوتيسكنه،أودخانيطارده،ولاغرابةفيذلكماداملكلقصيدةروحوريحانوقصيدة الشاعر وصوتودخان.ولايملكالشاعرإلاأنيتأسفعلىضياعالأصل،فيرحل كما ترحلالنارويبقىالرماد، ويسكن المكان خليطمنرائحةالموتورائحةالبعث، وأرحام المدائن والشرفاء. هكذا يعيد الشاعر للأشياء معناها:
هكذا/ هو الشّاعرُ يا عباسُ/ في السّماءِ شهابٌ/ قدْ نراه ولا نراه/ في الصحراء ريحٌ،/ يَتْلَعُ الرَّمْلُ والكثبانُ مَمْشاه/ منْ شهواته التيهُ،/ ومن نزواته النّسيان[xiii].
والعقلجوهرالأشياءوالموجودات،وأصلكلصرححضاريوتطورإنساني،وهومايجعلالشاعرعبداللهالطنيمسكوناومهووسابالحكمة. تعكسنصوصالديوانهذاالفيضالعرفانيمنصدىالأرواحعلىعدةمستويات،اتجاهكلمنعرفهالشاعر،عنقربأوبعد،وهومايكشفعنالثقافةالعرفانيةالتيتتجاوزالعلاقاتالطبيعيةالملموسةبمعناهاالضيقلتنفتحعلىالعلاقةالروحيةبمعناهاالواسع،تلكالتيتتخطىكلالعوائق،وتتجاوزكلالاكراهات. ويتجلىنسيجصدىالروحبوضوحفيالنصوصالشعريةذاتالبعدالرثائيوخاصةرثاءأولئكالذينينحدرونمنسجلماسة.كمايتجلىفيالتقديمالذيخصبهالشاعرالديوان؛حيثأحصى الشاعرُعددَ كلمنلهالفضل عليه أو على الأمكنةمنالأصفياءوالأوفياء، والنجوم والكواكب:
(قُلْلَهم:أرافقُالكواكبَوالنجومَإلىحيثتمضي،/ وأوصلُالراحلينإلىمداهم،/أعُدُّرحلةَالأشْياءِوالأحْياءِوالأنبياءوالشّعراء/والضّاربينفيالأرض،/فيلوحٍمحفوظ/ كيلاأنسىوتنسونملاحمالميلادوالفقدان/والعودفيكم،أيُّهاالشاردون)[xiv]
ولعلتولهاتالأعالي،وحروفالإرتقاء،وعشقالصعود،جوهرفلسفةالرؤياالشعريةعندالشاعرعبداللهالطني،وليسالمقصودبهامعناهاالإجرائيالصريحوإنماالإيحائيوالرمزيوالروحى،ويتجلىذلكبوضوحعندمايلاحظالقارئأنالشاعريتعالىعنالواقععلواكبيراحتىليخالالمرءأنهغيرمعنيبمايعجبهفعليامنقضاياوإشكالات،وأنمايرتضيههوالرقيكشريعةأساس،وهومايجعلالصعودليسغايةيرجىتحققهافحسب،بلهووسيلةرمزيةوسيرةالعظماء،يتأسىبهاالشاعرفتطبعمتخيلهالشعري،وتنسجعوالمهالنصيةالمشكلةللديوان.
..فأقولُلهم:إنّكَالعاشقالسجلماسيُ/الذيكلُّنخلاتالواحةتعرفهُ/وظلهاالوريفحرفاًحرفاًيذكرُهُ/ووحدهنهرزيزيعرفأينيصبشوقكالفائضفي/صبواتالرمل/ولاتسألونيبعدهاكيفيغيرالنهروجهتهُ/إنفاضبهعشقالأعاليواستلهام[xv].
وتنصهرالذاتالشاعرةمعمختلفعناصرالكونانصهاراكليا،منخلالتصورفكرييجعلالأشياءتسكنالذات،فيتكلمالشاعرعلىلسانها،وتتكلمعلىلسانه،فيسياقالحواراتالتيتنبنيعليهانصوصالديوان،واللوحاتالفنيةالتيتعرضهابشتىألوانهاوأشكالها،وعبرتوزيعالأدوارعلىالعناصرالمؤثثةللنصالشعري،فالشاعريرافقالكواكبوالنجوموالشمس،ويأخذمنهادروساوعبرا،أخْذالعاشقالعارف،وينتقيالنادرمنأقوالهوأقوالها،والشاردمنكلامهاوكلامه؛
سأكونالقصيدةكلَّهافيصعودي/سأصعدأمتطيبراقالكلماتإلىماوراءالغمام/فحلّقْتُمعالنسر، جناحاهُمنْريشٍ، /وجناحايَمنْكلام[xvi].
واستناداإلىماسبق،يتجلىأنالتجوهرمنتهىالرؤيةالشعريةعندالشاعرعبداللهالطنيولاغرابةفيذلكمادامالنصالشعريعلىمستوىعالمنالبيان؛بحيثلايمكنأننجدنصاشعريايخلومنهذاالمكونالفنيالذييمنحالنصالشعريديناميةتشدانتباهالقارئ،ويسلك بالشاعرنحوالرقةوالرفعةوالرهافةوالخفةوالرشاقةوالأصالةوالعراقة،ويزيدالمدلولالشعريعمقاوعبقاوشوقا،وجمالاوكمالاووصالا،وكأنالشاعرلاتكفيهمؤهلاتهالطبيعيةفيلتمسفيعناصركونيةمؤهلاتأسطورية.
إنكلمكونفكريأوفنيأوجمالييتداخلفيالآخرتداخلاقويا،بليذوبفيهذوباناعجيباوهذهلعمريخاصيةمائزةللشعرالجيدالذييدهشبتماسكهوانسجامهواتساقهإلىمستوىقديعجزأمامهالقارئعنإيجادتبريراتمنطقية لمظاهرالجمال،وقديظفرببعضهاويغيبعنهالشيءالكثير. كلهذايجعلالتجوهرالجماليفيديوانالشاعرعبداللهالطني مبتدأومنتهىخرائطالنصالشعريومساراتهورؤاه،ومطلبرحلةالشاعرومأربهالذييسعىالقبضعليهبكلجوارحهوجوامحهوجوامعه.
تبينأنالصدىفينصوصالديوانمنمنظورهذهالمقاربةلايعنيرجعالصوت،وإنماالروحالتيلاتفنى،والجوهرالذيلايبلى،والحقيقةالتيلاتغربشمسها،وفيضوئهايهيمفيكيانهوكونه،ووجودهووجدانه،ويرقىبحسهالفكرينحومقامالصفاءوبقلبهالمهووسنحوالعرفان،ويهيمفيالأرضبطولهاوعرضها،بصحرائهاوواحاتها،وجبالهاووديانها،وهوائهاوريحها، وقدصفاذهنهالمزودبحدسثاقبصفاءالعالممنحولهفيالزمانوالمكان.
هَكذا/ هو الشّاعرُ/ قَدْ يَلْمَعُ مِنْ نورٍ،/ وَقَدْ يَخْرُج مِنْ نارٍ/ أو يُبْعَث من رمادٍ وطينٍ/ يَتَراقَص، يُغنّي المَشاعِرَ والأماكن والفصول/ يتناسخ في شكل غيمةٍ أو غدير/ كي لا يفقد معناه[xvii]
هوامش:
[i] ـ معلقات سجلماسة: حروف الأعالي، شعر، عبد الله الطني، مطبعة سجلماسة، مكناس، طبعة ربيع 2021، ص 156.
[ii] ـ معلقة الكثبان (هكذا هو الشاعر يا عباس المنيف) الديوان، ص147
[iii] ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)الديوان، ص27
[iv] ـ معلقة الشمس (وكما رأيتُني بشمسها) الديوان، ص215
[v]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 5،5 ـ سر المعلقين،الديوان ص50، 51
[vi]ـ معلقةآيتحاحو(صهواتالريش) مقطع: صهوة الحروف، الديوان، ص236
[vii]ـ معلقة الشمس (عن شمس ورزازات تحكي) مقطع: تحت شمس ورزازات، الديوان، ص209
[viii] ـ معلقةالوطن(تِلْواحنُغْبالو) مقطع 2: يكاد يرفرف سرب اللوح،الديوان، ص178
[ix] ـ معلقةالوفاء (منأوحىلتلكالنخلةأنيعشقها)مقطع: تقول لك السماء، الديوان، ص 127
[x]ـ معلقةأزقور(حدثتنيالريحبالنيفقال) مقطع1 ـ : توءمان، الديوان، ص111
[xi]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 3ـ جنة تاماسينْت، الديوان، ص35
[xii]ـ معلقةإكْطاط(شهواتتنجداد) المقطع: 3ـ شهوة الواصل، الديوان، ص،ص73، 74
[xiii] ـ معلقة الكثبان (هكذا هو الشاعر يا عباس المنيف) الديوان، 146.
[xiv]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 3ـ جنة تاماسينْت، جنة تنغير هي هي، الديوان، ص40
[xv] ـ مرثية الطائر الذي مات حالما (عاشق سجلماسة) المقطع الرابع، الديوان، ص ص277، 278.
[xvi]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 5ـ 6 سر المعراج، الديوان، ص56
[xvii]ـ معلقة الكثبان (هكذا هو الشاعر يا عباس المنيف) الديوان، ص، ص144،145.
هوامش
[1] ـ معلقات سجلماسة: حروف الأعالي، شعر، عبد الله الطني، مطبعة سجلماسة، مكناس، طبعة ربيع 2021، ص 156.
[1] ـ معلقة الكثبان (هكذا هو الشاعر يا عباس المنيف) الديوان، ص147
[1] ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)الديوان، ص27
[1] ـ معلقة الشمس (وكما رأيتُني بشمسها) الديوان، ص215
[1]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 5،5 ـ سر المعلقين،الديوان ص50، 51
[1]ـ معلقةآيتحاحو(صهواتالريش) مقطع: صهوة الحروف، الديوان، ص236
[1]ـ معلقة الشمس (عن شمس ورزازات تحكي) مقطع: تحت شمس ورزازات، الديوان، ص209
[1] ـ معلقةالوطن(تِلْواحنُغْبالو) مقطع 2: يكاد يرفرف سرب اللوح،الديوان، ص178
[1] ـ معلقةالوفاء (منأوحىلتلكالنخلةأنيعشقها)مقطع: تقول لك السماء، الديوان، ص 127
[1]ـ معلقةأزقور(حدثتنيالريحبالنيفقال) مقطع1 ـ : توءمان، الديوان، ص111
[1]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 3ـ جنة تاماسينْت، الديوان، ص35
[1]ـ معلقةإكْطاط(شهواتتنجداد) المقطع: 3ـ شهوة الواصل، الديوان، ص،ص73، 74
[1] ـ معلقة الكثبان (هكذا هو الشاعر يا عباس المنيف) الديوان، 146.
[1]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 3ـ جنة تاماسينْت، جنة تنغير هي هي، الديوان، ص40
[1] ـ مرثية الطائر الذي مات حالما (عاشق سجلماسة) المقطع الرابع، الديوان، ص ص277، 278.
[1]ـ معلقة تُدْغت (جناتتنغير)مقطع: 5ـ 6 سر المعراج، الديوان، ص56
[1]ـ معلقة الكثبان (هكذا هو الشاعر يا عباس المنيف) الديوان، ص، ص144،145.