الكلمة الافتتاحية للسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية خلال الندوة المتعلقة بموضوع :” نحو تصور مشترك لتكريس الحكامة الارتفاقية وحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي”*
المعهد العالي للقضاء، الخميس 10 نونبر 2022.
حضرات السيدات والسادة :
لا يمكن أن نستهل هذا اللقاء الفريد، في عنوانه ومحاور أشغاله وشركائه، دون أن نستحضر التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، في خطابه بتاريخ 20 غشت 2019، والذي سطر فيه الأولويات التي ينبغي أن تنكب عليها لجنة النموذج التنموي الجديد في المهام التي أسندت إليها، حيث قال نصره الله: “… فالمسؤولية مشتركة. وقد بلغنا مرحلةً لا تقبل التردد أو الأخطاء، ويجب أن نصل فيها إلى الحلول للمشاكل، التي تعيق التنمية ببلادنا. وهنا أقول، بأننا لا ينبغي أن نخجل من نقط الضعف، ومن الأخطاء، التي شابت مسارنا، وإنما يجب أن نستفيد منها، وأن نتخذها دروسا لتقويم الاختلالات، وتصحيح المسار”. انتهى النطق الملكي السامي.
وعلى هدي هذه التوجيهات السامية، يشارك المجلس الأعلى للسلطة القضائية اليوم، إلى جانب رئاسة النيابة العامة ومؤسسة وسيط المملكة واللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، في هذا العمل التنسيقي، الهادف إلى التعاون البناء، والتنسيق المحكم من أجل تكريس حكامة جيدة للمرفق العمومي، توفِّر الحماية الكافية للمعطيات الشخصية. وهي مناسبة لتقديم الشكر للسيد وسيط المملكة وللسيد رئيس اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، على اتخاذهما هذه المبادرة التي تعكس الأهمية التي يوليانها للمرتفق، الذي نلتزم جميعاً بخدمته وإرضائه. فشكراً لإشراك السلطة القضائية في هذا المشروع، بالنظر لما تمثله المعطيات الشخصية للأفراد من أهمية في تدبير الإجراءات والمساطر القضائية، وللدور الذي أناطه الدستور بالقاضي في حماية الحقوق والحريات. وهو ما يجعل انخراطنا في هذه الشراكة، منبراً مناسباً للإلمام الدقيق بقانون حماية المعطيات، ويوفر لنا، مع شركائنا فرصة سانحة لوضع تصورات منسجمة لتأمين الخدمات القضائية مع حماية المعطيات الشخصية في نفس الوقت.
حضرات السيدات والسادة؛
تعتبر حكامة المرافق العمومية من أهم المؤشرات التي تعتمدها الدول المتحضرة كركن أساسي لدولة القانون والمؤسسات. وهي تجسد في تطبيقاتها الدليل على ديمقراطية المجتمعات. كما أنها تُعتَبَر دعامةً ومدخلاً أساسياً للوصول إلى تنمية بشرية مستدامة. وهذا ما تؤكده توجهات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات الدولية في جل التقارير الصادرة عنها، والتي تجعل الحكامة مرتبطة بشكل وثيق بمفهوم التنمية، وتعرِّفُها بكونها: الرقابة والوصاية والتدبير الرشيد.
وقد انخرطت بلادنا في هذا السبيل، حيث أولى جلالة الملك عناية كبيرة لموضوع الحكامة. وتكررت التوجيهات الملكية المتعلقة بهذا الموضوع في العديد من الخطب والرسائل الملكية السامية. ففي خطابه للأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لسنة 2014، قال جلالة الملك : «وكما لا يخفى على أحد، فإن الحكامة الجيدة هي عماد نجاح أي إصلاح، والدعامة الأساسية لتحقيق أي استراتيجية لأهدافها.».
وأكد جلالته في خطاب العرش لسنة 2017 : ” إن مسؤولية وشرف خدمة المواطن، تمتد من الاستجابة لمطالبه البسيطة، إلى إنجاز المشاريع، صغيرة كانت ، أو متوسطة، أو كبرى” وأضاف جلالته في خطابه السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 2020-2021: “إن نجاح أي خطة أو مشروع، مهما كانت أهدافه، يبقى رهيناً باعتماد مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة”.
كما أن دستور 2011 قد أقر عدة مبادئ تتماشى في مضمونها وغايتها مع ما هو متعارف عليه دولياً.حيث أكد الفصل 154 وما يليه على خضوع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وربطها بعدة ضوابط، من بينها المساواة بين المواطنين في الاستفادة من الخدمات التي يقدمها المرفق العمومي، مع شمولها مجموع التراب الوطني بنفس الجودة وبشكل منصف. وكذا ضمان استمرارية تقديم هذه الخدمات مهما كانت الظروف والعراقيل. كما نص الدستور على ضرورة انتهاج مقاربة تشاركية مع عموم المواطنين من خلال تبني سياسة الإنصات والانفتاح على مختلف التوصيات والاقتراحات التي يقدمونها، سواء كانوا أفراداً عاديين أو أشخاصا معنويين يمثلون مختلف شرائح المجتمع المدني.
حضرات السيدات والسادة؛
إن القضاء، بالنظر لما يؤديه من خدمات للمتقاضين يعتبر معنياً بأسس ومبادئ الحكامة الجيدة، لما لتلك الخدمات من تأثير على مصالح المتقاضين المادية وعلى حالتهم الشخصية والمعنوية. فالقضاة والمحاكم وكل مكونات منظومة العدالة، معنيون بتوفير الشروط والظروف الملائمة لتحقيق الحكامة الجيدة للمرفق القضائي والمرافق العدلية. وفي مقدمتها، توفير البنية التحتية الملائمة والموارد البشرية المؤهلة، وحسن توزيع الخريطة القضائية، وكذلك بجودة الخدمات وسرعة أدائها بشكل يضمن تطبيق المبادئ والضوابط الآنفة الذكر، ويساهم في تحقيق التنمية المنشودة في بلادنا.
ولعل تحقيق هذا الهدف يتطلب منا البدء بتبسيط المساطر لكافة المتقاضين ما أمكن، سواء القانونية منها أو القضائية. وتوفير آليات تضمن الشرح المبسط للمعقد منها بلغة واضحة يفهمها المرتفق. كما يتطلب تسهيل الولوج إلى هذه الخدمات، عبر اعتماد ما توفره التكنولوجيات الحديثة في هذا المجال، وتلافي ما قد يكبد المتقاضين عناء التنقل وطلب الخدمة والبحث عن كيفية الاستفادة منها. علاوة على توفير المعلومة القانونية والقضائية بالمجان. وهنا اغتنم الفرصة لتثمين المبادرات التي تقوم بها وزارة العدل لتوفير خدمات إلكترونية جديدة بالمحاكم، ستساهم لا محالة في تحقيق هذه الغاية، وتوفير الوقت والجهد على المتقاضين المستفيدين منها.
ووعياً منه بضـرورة اعتماد الحكامة في تدبير المرفق القضائي، خصص المجلس الأعلى للسلطة القضائية في مخططه الاستراتيجي 2021- 2026 توجهاً محورياً يتعلق بالارتقاء بفعالية منظومة العدالة، يسعى عبره إلى تحسين جودة الخدمات القضائية المقدمة للمتقاضين والمرتفقين من خلال الحرص على ضمان إصدار الأحكام وتنفيذها داخل أجل معقول، والقضاء على القضايا المزمنة، وتقوية ثقة المتقاضين بالقضاء. وتحقيق الأمن القضائي من خلال نشر الاجتهاد القضائي. علاوة على السعي إلى تجويد الأحكام القضائية عبر تسطير برامج تكوين في مختلف المجالات، واعتماد مقاربة جديدة تتعلق بمعالجة الشكايات والتظلمات، سواء على مستوى إدارة المجلس أو على مستوى المحاكم، وذلك بهدف إنشاء علاقة بين المواطن والمجلس، قوامها الإنصات والاحترام المتبادلين، وأساسها إرساء الحكامة الارتفاقية وإعمال التدابير التي تقتضيها حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي.
وتفعيلاً لهذه التوجهات الاستراتيجية، قام المجلس في هذا المجال بعدة مبادرات، أهمها توجيه عدة دوريات تتعلق بضمان النجاعة القضائية وتحسين ظروف استقبال المشتكين، ولا سيما أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج. كما قام بنشـر أكثر من 8000 قرار قضائي لمحكمة النقض على موقعه الإلكتروني، قصد تمكين العموم من الاطلاع عليها مجاناً. وهي المجهودات التي يتوخى منها توفير الأمن القضائي والرفع من جودة الخدمات القضائية، الذي يشكل جوهر حكامة المرفق القضائي.
حضرات السيدات والسادة؛
لا يخفى عليكم أن المرفق العمومي بشكل عام، والقضائي بشكل خاص، يتعامل يومياً مع كم هائل من البيانات الشخصية، تمس مباشرة الحياة الخاصة للأفراد، التي تعد من أهم الحقوق التي شملها الدستور والقانون بالحماية، حيث يعتبر الحفاظ على سرية هذه البيانات ومعالجتها بشكل دقيق، أحد الضوابط الهامة لحكامة المرفق العمومي، مع الحرص على التنزيل الدقيق للأحكام القانونية ذات الصلة، وعلى رأسها مقتضيات الظهير الشريف رقم 1.09.15 بتاريخ 22 من صفر 1430 (18 فبراير 2009) بتنفيذ القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، ومرسومه التطبيقي رقم 2.09.165 الصادر بتاريخ 25 من جمادى الأولى 1430 (21 ماي 2009(، والتحديد الدقيق لطبيعة هذه المعلومات والمسؤول عن معالجتها والتنسيق المستمر مع اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، التي أوكل لها القانون مهمة التأكد من التطبيق السليم للنصوص الحمائية ذات الصلة.
وتجدر الإشارة إلى أن بلادنا كانت أول دولة في المنطقتين العربية والإفريقية تنال الاعتماد لدى المؤتمر الدولي لمندوبي حماية المعطيات والحياة الخاصة، وكان ذلك خلال الدورة 33 المنعقدة بمدينة مكسيكو في نونبر 2011. كما أنها انضمت بتاريخ 28 ماي 2019 إلى اتفاقية مجلس أوروبا رقم 108. وقد اعتمدت هذه السنة القانون رقم 53.21 الذي تمت بموجبه الموافقة على بروتوكول تعديل الاتفاقية المذكورة، الموقع بستراسبورغ بتاريخ 10 أكتوبر 2018. وهو ما يؤكد العناية الكبيرة التي توليها المملكة المغربية لحماية الحياة الخاصة للأفراد وما يرتبط بها من حقوق.
حضرات السيدات والسادة؛
وفي الختام، لا يسعني إلا تجديد تثميني لمبادرة عقد هذا اليوم الدراسي وشكر القائمين عليها. كما أرجو أن يكون هذا اللقاء بداية لتعاون وثيق لمؤسساتنا لبلوغ الغايات المسطرة في مجال التوفيق بين خدمة المرتفق وحماية معطياته الشخصية وحياته الخاصة.
شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.