الرباط / المكتبة الوطنية
آليات الفعل المدني و تأهيل التدبير السلمي
الانتظارات والإكراهات وعروض البدائل
في البداية لابد ان نعترف بأن فَشَلَنا في إحداث قطائع ولو صغرى وعدم تحقيق انتقالات مقبولة ، راكم لدينا اعتقادا سيئا بأننا ضحايا انعدام التواصل وبالأحرى فريسات فوضى التسويات غير المنتجة إلا للالتفاف وامتصاص النقم ، و للتدليل على تمثلنا لهذه السردية المبتذلة عن غير وعي بواقع سلبي ، دعونا نستحضر سياق إصدار ثلاث قوانين في بداية حصول المغرب على مسودة الاستقلال الأول والذي لا يعني سوى التوقيع بالأحرف الأولى على تسوية لفسخ عقد الحماية ، في أفق استكمال شروط بلورة مقتضيات الاستقلال الثاني، والذي لا زال يعرف مسلسله تواتر كثير من الانتقالات ، كانت الظهائر ابرز تعاقد من اجل الانتقال الموثقة بنوده في صياغة قوانين متداخلة ومترابطة حملت ظهائر الحريات ، صدرت بتاريخ 15 نونبر 1958 ، في ظل حكومة أحمد بلافريج ، وقد تم الإصدار ايام قليلة من تعيين عبد الله ابراهيم رئيسا للحكومة أي بتاريخ 7 دجنبر 1958 . ظهائر يتعلق كل واحد منها بضبط حق تأسيس الجمعيات وهو مضمون الظهير الأول ، والثاني في ثلاثة كتب ، الكتاب الأول خاص بالاجتماعات العمومية والكتاب الثاني يتعلق بالمظاهرات العمومية ثم الكتاب الثالث يتعلق التجمهر ، وأما الظهير الثالث فيتعلق بالصحافة . وكانت حكمة مشرع النصوص هي ممارسة العمل السياسي والمدني بواسطة هذه الحقوق بكل حرية وسلمية وبمجرد تصريح ، وهي رسالة سياسية تقطع مع نظام الحزب الوحيد وذلك مقابل ترك العنف أي ترك السلاح ، والخطاب تستهدف حملة قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بنفس القدر الذي يستهدف عدم التحاقهم بحزب الاستقلال . وكلنا يعرف سياقات و إكراهات التطبيق ومدى احترام هذا التعاقد فيما بين تمثيليات و تعبيرات قوى المجتمع ومؤسسات الدولة من آليات إنفاذ القانون وأجهزة تدبير القوة العمومية وغيرها من مؤسسات الردع والقضاء . لقد توصلنا على الأقل إلى محاولة إجراء تقييم تشاركي من خلال محطة فتح ورش الحقيقة والإنصاف ومحاولة بلورة التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة والتوصيات المذيلة به . هي ثمرة تسوية سياسية باشرها وأطر منطلقاتها الحقوقيون ، بسبب تردد السياسيين لعقدة تورطهم في ما جرى ، اطرها الحقوقيون ( اصلهم سياسيون ضحايا سنوات الرصاص تبنوا المقاربة الحقوقية بعد سقوط المنظومة الشيوعية مع الوعي ان السقف ليبرالي ، ببعدين : بعد شامل سياسي وفي عمقه أمني يروم القطع مع الماضي ومع مظاهر الاستبداد والعنف والعنف المضاد والانفلات الأمني والتوتر والاحتقان الاجتماعيين . وبعد ثاني إنساني واجتماعي مرتبط بجبر الضرر الفردي والضرر الجماعي ( المجالي والترابي ) وحفظ الذاكرة . من هنا اخترت التفاعل مع موضوع ندوة اليوم من خلال تقييم مسار تفعيل التوصيات باعتبارها التزامات وواجبات وحقوق تعاقدية بين تعبيرات المجتمع ومؤسسات الدولة ، ولسنا نزعم أننا في حركة الضحايا نبغي ادعاء الوكالة عن ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، فلسنا نزعم أننا الممثل الوحيد والشرعي لضحايا سنوات الرصاص ، وفي نفس الوقت لا يمكن ان نتواضع و نبخس دور المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف مدعوما بالطيف الحقوقي وعلى الخصوص حركة عائلات المختطفين السياسيين و المجهولي المصير ، وديناميات قدماء المعتقلين السياسيين ، المؤطرة والمدعومة بمكونات هيئة متابعة توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان . وهنا لابد ان نسجل معكم اول إكراه وهو أن دور الحقوقيين انتهى ، في العلاقة مع تفعيل التوصيات ، والإكراه مرتبط بتفعيل الشق السياسي منها ، خاصة الملفات العالقة والمتعلق بالاختفاء القسري واستكمال التحري والحقيقة ، إضافة إلى كافة التوصيات غير تلك المرتبطة بجبر الضرر الفردي وتسوية الوضعيات الإدارية والمالية للضحايا وكل ما يرتبط بالملف الاجتماعي والمقاربة التعويضية . إنه إشكال كبير كون المفترض فيه تفعيل الشق السياسي في التوصيات هم الفاعلون السياسيون وصناع القرار السياسي والأمني . وهنا لابد من الإقرار بأنه لا يعقل أن يتولى الضحايا الدفاع عن مصالحهم بصفتهم تلك وعن مصالح عموم المجتمع ، لأسباب مرتبطة بالتفرغ والاختصاص والأهلية والكفاءة ، بالتوصيات شأن مجتمعي وسيادي في بعضه ، وعلى الخصوص مهمة إرساء تدابير وضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وهي قطب الرحى في التوصيات لكونها ذات طبيعة سياسية مرتبطة عضويا بمطلب الإصلاحات السياسية والدستورية والتشريعية والمؤسسية . أما الإكراه الثاني هو أن بعض التوصيات يعد تفعيلها أمر مستحيلا في نظر الأحزاب السياسية والمؤسسات العمومية ، وخاصة تلك المرتبطة بالشأن الأمني ومنظومة العدالة والسيادة الوطنية والتي يعتبرونها ، كما تدبير الأمن الروحي والشأن الديني ، شؤون محفوظة للمؤسسة الملكية ، وهو اعتقاد سببه ثلاثي يتخذ ذرائع دستورية وتاريخية ، باعتبار أن الدستور يشرعن لصلاحيات ما فوق دستورية ، تجعلهم يميزون ما بين سياسة عمومية من اختصاص مجال القانون ( البرلمان ) والسياسة العمومية ( الحكومة ) وبين سياسة عامة وقضايا مصيرية و حيوية واستراتيجية ( يختص بها مجلس الوزراء ) . هي إشكاليات تخص الفاعلين السياسيين ولكن تداعيات تنطلي وتطول الفعل الحقوقي وتثبط عزيمته وإرادته وتقيد حركته وحريته . الإشكال الآخر ، مشترك مع كافة قوى المجتمع المدني هو ضعف إمكانياتها ( بشريا وماديا وماليا ) ، مرتبط ايضا بعياء سياسي عام ساهم فيه تضخيم الانتظارات وتعدد جبهات ” النضال ” ، وهو أمر يؤثر على موقع الجمعيات ويضعف موقعها الاجتماعي والتعاقدي والتفاوض وهذا تجلى إبان الحالات النضالية اعتبارا من 20 فبراير إلى وقائع الشمال الاجتماعية وما رافقها من مقاربة أمنية . ولنا ان نقر بهشاشة آليات الدفاع المدني وجمود عقلها الإبداعي ، وما يترتب عنه من صعوبة استكمال تأسيس مقومات الديمقراطية التشاركية ، ناهيك عن قصور الدولة والحكومة في ضمان حماية حقيقية للفاعلين المدنيين والاجتماعيين والحقوقيين ، بل بالعكس هناك تضييق بالردع الصلب والقمع الناعم معا ، رغم أن المغرب كان أول من اقترح مسودة الإعلان العالمي لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان . وفي هذا يمكن اعتماد شهادة بعض الأسماء ( وجار . النويضي . السكتاوي ) . وحتى لا أطيل لدي بعض الاقتراحات تهم :
العمل على تحويل الإعلانات المتعلقة بالحق في التنمية وكذا بحماية المدافعين عن حقوق الإنسان وضمان سلامتهم إلى معاهدات ومواثيق ملزمة ، وترتيب جزاءات على انتهاك مقتضياتها ، بما يعنيه ذلك من تمتعه بمزايا ” نظرية الموظف الفعلي ” باعتباره يمارس فعلا عموميا ويسدي خدمات مرفقية ومصلحة عامة . وتوفير كافة الإمكانيات الميسرة من تأهيل الفعل المدني ونجاعة وتجويده بتوسيع حرية التأسيس والتنظيم والاجتماع والتعبير ، وذلك من خلال تكريس مبدأ التصريح واعتماد مجرد بحث روتيني حول رئيس الجمعية باعتباره ممثلها والمسؤول قانونيا و جنائيا أمام السلطة العمومية والقضائية .
ولأن المجتمع المدني يعد فاعلا رئيسيا في هندسة معالم المجتمع الديمقراطي ، فإن دعمه يجسد تفعيلا ملموسا للمقاربة التشاركية ، ولما لا تحقيق الديمقراطية التشاركية ، في ظل تدهور البنيات الحزبية المعبرة سياسيا وسوسيولوجيا عن الديمقراطية التمثيلية ؛ قوى المجتمع المنظمة والمدعومة ترمز إلى منهجية متعددة لمشاركة المواطنين في حياة الوطن وفي الحياة المشتركة بين مكوناته. وبناءً على هذا المبدأ ، يصبح تمويل الفعل المدني والعمل الاجتماعي ركيزة من ركائز المالية العمومية . وهي جزء من محور الاستثمار الاجتماعي. ما إذا كان هذا التمويل يأتي من الأموال العامة أو الخاصة.
لذلك يمكن ان نفتخر المقاولة المواطنة عندما تتحد ، مقاولة تنتمي للقطاع الخاص ، مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في مجال ما ، فإنها تفعل ذلك من عدة وجهات نظر:
– إصلاح القيمة التي دمرها نشاطها (البيئة ، الاستغلال المفرط للموارد طبيعي حيوي ، انتهاك حقوق الإنسان ، إلخ)
– خلق قيمة جديدة: المزيد من العملاء لتطوير المبيعات والأرباح
– بناء درع اجتماعي وحماية أنفسهم من المنافسة والمستهلكين الواعين .
ولتجاوز المخاطر المهددة للسيادة كلما بادر الفاعلون الدوليون لتمويل العمل الاجتماعي. فيمكن أن تكون الأسباب:
– التنمية لمحاربة التفاوتات وفي نفس الوقت إعداد البلاد للوصول إلى حالة الرفاهية التي تعدها للاندماج الكامل في المجتمع الاستهلاكي كمستهلك بالمعنى المعولم.
– التغيرات السياسية والاجتماعية والقضايا الجيوسياسية والاستراتيجية القادرة على الحفاظ على مصلحة المانحين
عندما تمول الدولة نفسها المجتمع المدني الذي يقوم بعمل اجتماعي ، فإنها تفعل ذلك على أساس اعتباره أداة مساعدة للمؤسسات العمومية والمرافق الاجتماعية كنوع من حزام النقل والتوزيع أكثر مرونة وقربًا من المواطنين. دون أن ننسى أن هذا التمويل يمكن استخدامه أيضًا للأغراض الأيديولوجية باسم التضامن والإحسان ، مما يقتضي الحال ضرورة الموازنة بين مواقف الفاعلين المؤثرين في إدارة المجتمع وتأطيره .
يجب أن يكمل الاستثمار المالي في المجتمع الفعل والخدمات العمومية ، لا أن يحل محله بديلا . يجب أن تكون موجهة نحو تحسين رأس المال البشري وليس البنية التحتية. والعكس يعني أن الدولة والسياسات العامة تفشل.
وفي الأخير لابد من أن ننوه بمبادرة تأسيس جبهة مدنية ببعد سياسي هادفة إلى ترسيخ مقومات بناء الدولة الاجتماعية ، وفي هذا الصدد نصر على دعم هذه الدينامية المجتمعية على أساس تقويم الخلل الذي شاب البعد الاجتماعي في الدستور ، وذلك بالعمل على تعديل الفصل 31 منه والذي غير المسؤولية الاجتماعية للدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية من التزام بضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ( كما كان عليه في الفصل 13 من دستور 1996 ، غيره إلى مجرد التزام بسعي وبذل عناية دون ضمان تحقيقه . لأنه في آخر المطاف لا يمكن تصور دور فعال للفعل المدني دون ضمان الحق في الأمن ضد الحاجة وبنفس القدر ضمان الحق في الأمن ضد الخوف ، في علاقة الخصاص الاجتماعي بالانفلات الأمني علاقة احتكاك وصدام ، فكيف لنا بلورة تسوية توفيقية بين التنافضين سوى بإقران الحكامة الاجتماعية بالحكامة الأمنية ! ولعل أول الخطو المناداة تسوية الملفات السياسية والاجتماعية المستعجلة والعالقة وتصفية البيئة الحقوقية المقلقة وترتيب كافة الآثار القانونية والإنسانية .
مصطفى المنوزي
رئيس المركز المغربي للديمقراطية والأمن
المحمدية بتاريخ 20 يونيو 2022