تقديم
إن أي تفكير عند الجسد الدرامي، هو تفكير في المادي والمعيشي، هو تفكير يعمق الرؤية، ويبني أفقا جديدا في التجريب الإبداعي الدرامي، لأن الكلام عن هذا الجسد كبعد علاماتي لا يعني البحث في أبعاده الفيزيولوجية ولا البيولوجية، بل أصبح يتخذ أشكالا عدة، على المستوى الديني أو الاجتماعي، أو الأنتربولوجي أو الثقافي، لذا أمسى عتبة عليا التي من خلالها نطرح الأسئلة التالية: ما الجسد؟ وكيف تمسرحه على الركح؟ وكيف يتحد مع المستحيل والممكن الرمزي؟ وكيف وظفه طارق بورحيم ككتابة تمسرحية؟
أسئلة كثيرة تحمل هوية متعددة لهذا الجسد، لأنه كتلة تشغل الحيز الزمكاني، وتخضع لمواصفات القياس من طول وعرض، فيتحول إلى الوجود الرمزي، بما يسمح لنا باستخلاص مجموعة من التغيرات لأنه هو موطن السلطة كما يقول ميشيل فوكو في كتابه “أركيولوجية المعرفة” ص: 123، فتاريخ الإنسان هو تاريخ الجسد الذي عرف تطورا مهما سواء على مستوى التقديس أو التدنيس والعكس كذلك.
فإذا كانت الحضارة القديمة مجدت هذا الجسد وقدسته، وجعلته هو الأسمى والأوحد، لكن في القرون الوسطى جعلته الكنيسة موضوعا للقهر والإقصاء والتهميش، منا هنا نرى أن مسرحية الليلة هي ثورة ضد الجسد المفبرك، وصناعته وإنتاجيته وتسويقه، بعد أن فصلت الحداثة عن أساسها التنويري، إذن فالمخرج طارق بورحيم، وشباب برومثيوس أسقطوا كل الأقنعة، وكسروا كل الطابوهات رغم المنظور العربي الذي لا يزال مرتبطا بالمدونة الأرتودوكسية، لأنه مدخل للشهوة والرذيلة، ومعصية مع الفقهاء وعلماء الكلام كما يرى الجابري في تكوين العقل العربي، ونقد العقل العربي، فالمسرحية هي رفض لسلطة المدنس، ولسلطة الأوامر الاجتماعية والسياسية.
إن فلسفة الجسد هو نتاج لرؤية العالم والإنسان والقيم، لأن تشريح هذا الجسد الدرامي، هو فهم وإفهام في بعده الطبيعي والثقافي، وفي تحولاته الزمكانية، لأن المخرج أعاد كتابة هذا الكون من أجل تخطي زمنيته، لإقامة في الأن والهنا كما يقول عبد الكريم برشيد في كتابه “الاحتفالية”، فعبر هذا الجسد يستطيع الممثل والممثلة أن يرتبطا بوجودهما لكي يشاركا في الترابط الاحتفالي والطقسي.
فالممثلة – أ – والممثلة – ج – عملتا على نحت هذا الجسد ليستقبل بحفاوة كل الدلالات الخفية من أجل الانفتاح أمام مسار الإنسان(1).
فالممثلة سعاد أيت أكدور، ولبنى بوطيب عملتا على خلق صراع بين دعاة التقليد وأصحاب الحداثة دون جعل المرأة مجرد جسد شبقي، ودون جعلها أسيرة السفينة كما يقول ديكارت، لذا طرحنا هذا الجسد الصموت لكسر الفحولة المعطوبة، ولتفكيك الرؤية التي تختزل الجسد في المتعة واللذة، لأن الهوية الجسدية هي نص متحول غير مؤسساتي وغير خاضع لثقافة الأذن المرتبطة بالتراث، ولا خاضعة لوثنية الخطايا والملكية، لأن المسرحية المقدمة من فرقة بروميثيوس هي سند تحرر كفيل، يرصد التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعرفها مجتمعنا العربي والإفريقي، لأن هذا العرض هو فلسفة ثقافية جماهيرية تستنطق المحتمل والمملوك، والمجنون مع توضيح عوامل واقع الحداثة العالقة بالمجتمعات، وهذا ما سنراه في هذا التحليل المقارباتي لهذه المسرحية المعنونة الليلة.
فالمقدس هو الطاقة وقوة المجتمع في إدراك أفراده باعتبارها خارجة عن إرادتهم(2) لأن دلالة المقدس يتعارض مع الدنيوي في ديناميته وحركيته، لأنه يركب دلالته في الزمان ولأنه يعانق الطهارة والمدنس، لذا عمل المخرج بورحيم على تفجير هذه الطاقة شبيهة بمجال ميغناطيسي على الركح.
الفعل القرائي البصري للمسرحيةü
إن قراءة هذه المسرحية كأي بحث من البحوث مكتوبا أو شفويا، يوجه القارئ في قراءته بعرض مشكلاته وعالمه ويقدم المنهج كطريقة للقاء النص، ذلك أن النص كبنية متميزة يقدم نفسه خارج أي تكلف، وفي غير حاجة إلى وصف وإلى تعليق، لا يبنيه الفعل النصي أو إنتاجه. فكل هامش يجب أن يكون من داخل النص، مشدودا إليه، لا عالقا به بطريقة خارجية، إنه إقحام غير تعسفي لقراءة القارئ لجسد الكتابة التي تنمو خارج قراءته لنصه (الكاتب/القارئ). إذن هناك فاصل بين موضوع الكتابة وموضوع القراءة، هذا الفاصل الوهمي بين النص والمخرج ليس إلا حدا فاصلا بين إنتاج المعرفة بمشكلة ما وبين قراءة هذا الإنتاج، حتى ولو كانت هذه القراءة تأخذ مظهرا يبدو ظاهريا بريئا، كأن تكون عرضا لمشكلات البحث أو لنتائجه، إنها لا تعدو أن تكون قراءة إيديولوجية التي تعمل على تملك النص، وليس كل تقديم لقراءة المتن هو استحضار لكل المناهج قصد المجابهة والهجوم والمحاكمة. بل يهدف تقديم ما أنجز في العالم المسرحي والنقدي من أجل محاكمة رمزية الجسد ليكون فيها التبرير كتابة عشقية تحمل عدة احتمالات، وهذا ليس اندماجا كليا في النص بشكل غير مشروع من أجل وجود “الإمكانيات غير المرئية”، لذا تجدنا نعيد القراءة بطريقة “نقد النقد” لقطع الطريق أمام القراءة البسيطة والتي لا تتأسس على اليقين النقدي، ولا تملك القوانين العامة التي تحكم تطور المسار المسرحي العربي والنقدي.
قد لا تكون عملية القراءة النقدية أو قراءة القراءة قائمة بصورة كلية، ولكنها قد تكون بمثابة إرادة لا تخفي الظاهر، ولا المستتر كوحدة ثقافية. فالمسرحيون لا ينطلقون من الخارج، لأن المسرح شيء، والمنهج شيء آخر. فالقواعد والضوابط التي تحكم الأشياء المتباعدة والمتقاربة ينبغي أن تستنتج من خلال المتن المدروس، لأن المسرحي إنسان يرحل باستمرار في جلابيب الكون ورموزه، يتكيف مع السائد والآني، لذا علمته الأيام كيف يثور ضد العالم، ليحفر بأظافره حول كل قدر جديد، يقرأ الواقع والتاريخ وهو داخله وليس خارجه، يرفض أن يبلغه هذا الثوب الجاهز لكل المقامات، فهو يصوغ العالم كما يريد شعبه بلغة شاعرية، وببناء جديد وبمواد عذراء يستعملها ويخرجها المسرحي من يده متوهجة أنيقة يأتي بها من “مقلع لا يقوى أحد عليها سواه أنه الحلم كما يقول أحمد الطريس اعراب”(3). فالحلم هو منقد يسلكه المبدع لاكتشاف الرؤية المستقبلية، لأن إنقاذ المواقف بحسنات الدمار والموت والبعث. هو الطريق الجوهري والضروري للتفجير والإبداع، لأن تطبيق مقاييس التجربة هو تطبيق لتجارب مجتمع وفق رؤية المبدع، إذ بواسطته نصل إلى القصدية. فالمسرح الجسدي مسرح يستنفذ القارئ دلاليا بطريقة ليحطم عن جهته وأبنية وعيه أو يجبره على مسألة وانخراط في شظايا أيام المنكسرة لدوال المجتمع، من هنا يأتي هذا المبحث ضد الجاهز والاطمئنان.
لأن المسرح هو مسرح ضد نفسه، يخلق من قبيل منكرات في الأحلام المزعجة، لأن الجسد الإنساني عالم صغير، ترتبط أقواله وأفعاله بهذا الكون الذي يحارب الروح تحت وطأة إعادة الوجود وإعادة صورة للعالم، لأن هناك أشباح يبتلعها الظلام إلى الأبد، إذا لابد على المسرحي أن يتعدى تلك البدع التي تسمى الرمزية والطبيعة والسريالية، لكي يدرك ما وراءها بكل خلائقها، إذن عليه أن يساهم في تعمير إشكالاته وجمالاته وإحساسيته ومدى ارتباطه بأثاره المرجعي الأصلي الذي هو عبارة عن بنية متعالية وقاعدة للتمسح وذلك قصد معرفة الطريق التاريخي الذي قطعه المسرح إلى اليوم، والسؤال المطروح لماذا نمسرح هذا الجسد؟ وما هي أسسه التأسيسية والإنجازية الركحية؟
إذا كان لمسرح خاصية عفوية ولقاء بين المرسل والمرسل إليه فهو تمسرح مصدره الطبيعة الإنسانية وحيث يكون ملازما للإنسان قبل أن يتحول إلى موضوع جمالي، ولكن في الوقت نفسه يريد أن يفهمه بطريقة خاصة لأن الفهم لدى الجمهور يختلف عن الفهم الضيق الذي تثيره اللغة العادية، ذلك أن الأشياء والأمكنة والأزمنة ليست شعرية إلا بالقوة، ولا تصبح ممارسة فعلية إلا باللغة الدرامية فبمجرد ما يتحول الكلام اليومي إلى ميتا مسرح، يضع مصيره الجمالي بين اللغة الدرامية، لأن المسرح ضد اليومي والرتابة، بهذا المعنى يصير التمسرح عبارة عن انسياح مطلق.
فما يهم المسرحي طارق بورحيم ليس الأشياء في ذاتها، بل الأشياء التي تحمل تموجاتها وهيمنتها على الواقع، لأن المنهجية التي اتبعها هي منهجية مقارنة تعمل على مقابلة الشعر بالنثر في إطار شعرية وبأسلوب تعبيري درامي ينبني على رصد الوقائع والأحداث والاستدلال انطلاقا من عين تمثيلية تمسرحية للعرض ويمكن تحديد أهم مظاهر هذا الانزياح من خلال مسرحة الليلة الشيء الذي أثار العديد من النقاش بين الباحثين، فهناك من اعتبرها المرجع الأساسي لكل قاعدة مسرحية أو شعرية غير مسيجة ولا قيمة لها، وهناك من اعتبرها أساس في كل عملية إبداعية، لأنها طرحت عدة مفاهيم منها المحاكاة والتطهير والتراجيديا والكوميديا والملحمي والغنائي والتمثيلي فهي النافذة والعتبة لكل هذه المفاهيم التي قادتها لتحاكي إما بالصوت أو باللون أو باللغة أو بالإيقاع، لأنها ذات محاكاة بالحكي والقصص ومحاكاة بالتجسيد والتقنين وطارق بورحيم في تعريفاته لفنون القول تختلف تبعا لسنة التوظيف ولقانون الممارسة الإبداعية لتحاكي فهي محاكاة لفعل نبيل لها طول معلوم مزودة باللغة وبالألوان من التزيين، تختلف وفقا لاختلاف أجزائها، حيث تثير الشفقة والخوف، مما يتولد عنها التطهير وتثار بواسطة أناس يعملون بواسطة فعل المحاكاة أو القصة كما قلت لكن هذا الفعل المأساوي(4) فرغم تحديداته للانتماء الطبقي ودوره الاجتماعي ومعاناتها، فهو لا يحافظ إلا على التفرقة بين القاعدة والقمة ويرفض كل تلاحم بينهما، وهذا الانشقاق بين الفكر والواقع عبارة عن مؤشر يميز العقل والفكر عن الكينونة الفردية ليحرر الأنا المفكرة من سجن الميتافيزيقيا لتنخرط في عقلانية درامية التي تتأسس على فكرة التماهي بين الذات والموضوع كما يقول طارق بورحيم.
فولادة المسرح إذن تعبير جوهري عن التحولات الأساسية الناتجة عن ما يسميه خلخلة النظام الدوغمائي، والمبني على الخطوع الضروري من طرف الذات، لأن المسرحي لا يؤلف بين النصوص إلا تلك الخلفية الجمالية والفنية التي تحمل البعد الكلاسيكي وتارة تحمل البعد التاريخي والاجتماعي وتارة تترك التواريخ والأسماء تعيش بمتون تشجيرات النصوص وسلالتها الفنية وبقدر ما يسعى إلى ضبط المسرح وتعريبه في قوالب القيمية والمعيارية، لها المحافظة والنهاية بقدر ما يطمح هذا المبحث إلى تكسير تلك القوالب في سبيل البحث المستمر عن الرؤى التجريبية للإنسان ولتنسق كل غير مشروط بفعل إبداعي، لذلك فتبنيه الاستراتيجية التصنيفية لا تقدم نفسها طواعية، لكن على العكس من ذلك هي وسيلة إجرائية لصياغة مفهوم المغاير للمسرح، مفهوم تغزوه الطروحات المقولاتية التي ضلت تسكن النقد بصفته الخاصة كاستراتيجية نقدية نجد مدى غرضها في توجه النهوض في إنزال النص من سماء الآلهة إلى الأرض، بحيث يغدو تبئيرا للهدم والبناء بعد أن أصبح ضريحا يحتدي به، ويقول احمد الطريس: “وما نلحظه اليوم في الساعة هو التعدد في التصورات النظرية والتنوع في المفاهيم والأدوات الإجرائية مما يؤدي إلى اختلاف كبير في عملية تأويل الخطاب الأدبي والشعري”(5).
إن اختيار مبدأ الأصل الدرامي في القراءة كمعيار دال على استراتيجية مبنية وكاختيار تفارقه أهداف بحثية، لأن الاستكانة هي لتوجه منهجي يؤسس وظيفة السبق والجسد في إطار النمذجة لإعادة إنتاج المضاعف وفي الاختيار لإبداع للكفاية. لكننا حين نبني إمكانية القراءة (نقد النقد) فإننا نعيد اعتبار لصوت الهامش، لأن ممارسة هذا الاختلاف ومقاربة النصوص بمنظور مغاير أدى يؤدي إلى إدراج خطوة الإبداع لمواجهة بين العصور كخطوة جديدة ومهمة في اختبار صلابة الأدوات والأرضية التي اعتمد عليها المخرج قد تكون سببا مهما وبوابة مفتوحة في الكشف عن التناقضات التي ستبقى خلاصة ومركز اهتمام (نفسية – اجتماعية – انتروبولوجية ….) لأن صفة استحضار الجسد في تعيين طبيعة العلاقة المفترضة بين إجراءات وأدوات هذا الاستحضار والاسترجاع أصبح هو التصور التنظيمي المحكم والمنظم لكثير من المعارف اللغوية والمجالات التعبيرية التي تعتبر درسا للمسرح، والملتقي، ويقول عبد الفتاح كليطو: “فالمتخصص نفسه يتحول عندما يدرس الأدب إلى متعدد حرف Bricoleur لذلك ترى المستقيم بالأدب يستعير أدواته ويلتقطها من اللسانيات وعلم الاجتماع وعلم النفس الخ، يأخذ من كل هذه العلوم رغم عدم تخصصه فيها في غالب الأحيان”(6). ولعل الباعث الذي دفعنا إلى اعتبار صفة الأصل كمعيار دال على قراءة نقد النقد سيبدو مكونا أساسيا في فهم طبيعة حضور المرجع والبرنامج الذي يشيده المخرج قصد إنتاج تعاليم غير مجهزة وأبنية تهيئ وليمة تحليل هذا المبحث، إذن إن صفة الباعث هو الذي جعل مفهوم القطيعة تكتشف أن الكائن لديه قوة جديدة وفعالة، فهو مشروع الفن والطبيعة الدرامية حيث ينتج عن ذلك أن المسرح يتبع الوعي بالذات كما يربط العلاقة مع البيئة والتاريخ، لأن تصورات المسرحي بورحيم مرتبطة بمصاحبة أناه الكبرى التي هي النحن، وهذا يعني أن حضور المرجعية الدرامية كثيرة كصيغة كوجيتية جديدة في المسرح المغربي فهي عبارة عن أفكر في نفسي(7) باللغة العربية أو الغربية، ومن ثم فإن المسرح هو عبارة عن أرضية صالحة للتأويلات والمقابلات ومكانة فعالة قادرة على أن تكون واسطة بين الأصلي والفرعي، وبين الحقيقة والواقع، حيث تصلح فيها التأويلات عن الحداثة لتتجاوز البلاغة السردية والمعنى المباشر ولتكون مهمة مسرحة ولجعل المتفرج أمام المشاهد لتحليل الشخصية من أجل تغيير أفق انتظاره من هنا جاء التركيز على هذا العنصر الاستحضاري كصراع أفرزته ظاهرة الذوبان للشخصية في العرض واقع وكانشطار لهذه الذات، إذ أصبح الإنسان المغربي في طريقه واقفا في مدار الاستواء بين الثقافة التي تتأسس على فعل التأسيس وبين الثقافة التي تتأسس على الإدراك والهوية والامتداد.
وهذا التأسيس وجد في مختلف طروحات بورحيم مما جعله يخرج من هذا الحضور كإعلان يروم تأسيس حكي يحفل بالعجيب والغريب ويتماها مع الماضي لكي يموضع نفسه ضمن إطار الجنس الدرامي لتأكيد أهميته التوليدية في تشييد مخيلة مختلفة كعنصر الطهر والقداسة.
هكذا تتشكل الإشكالية الدرامية بما هي نص موازي متواتر، يكشف علاقة بين الأصل والفرع وراهنية الإنسان المغربي داخل الفضاء الركحي من أجل الوصول إلى النهائية التمسرحية، لذا جعل المخرج يعيد قراءة النص برؤية تجريبية تتلائم مع شروط الواقع الممكن وبالوعي الجمالي والفني.
إن هذا التمسرح جعل هذا الحضور كبحث عن الواقع الممكن له مسوغاته، حيث إن واقع المسرح يشكله جانبا حاضرا في الذاكرة المغربية لأنه يبرز لنا الصراع بين الذات والآخر والآخر والأصل كسلوكات التي يمكن ردها إلى الخيبة التي احتضنته الليلة كصراع وكتابة تنطلق من الذات أنطولوجيا، ويقول اندريه غرين: هل من الممكن عدم إقامة أي علاقة بين إنسان وإبداعه، فمن أي قوة يقتات هذا الإبداع إن لم يكون من تلك التي تعمل عند المبدع(8).
فهذا الحضور التمسرحي يعطي للذات المنشطرة تبعيتها ونفي لما ألفتها دون هدم صياغة جديدة لبناء مبناها المحكم في عبارة ملخصة لتفصيل العمل، غير أن ما يمكن طرحه، هو الغموض المقصود في الذات المغربية، غموض يكشف عن خاصية إيجاز مبدأ الموجه Principe directeur كعنصر ثابت وموجود في كل مكان وفي كل المتون المتضمنة لهذه الخاصية، أي كتصنيف المنبثق عند الحدود الممسرحة التي حاولت رسمها لهذا الحضور الدرامي، ولا شك أنها ستساعدنا على خلق ألفة بيننا وبين المتن المدروس من أجل إزالة الستائر الغرائبية كدينامية المفهوم في الحضور الماقبلي وعبر جهاز أوليات والأدوات المنهجية، لأن النقد المسرحي هو حضور مبرر ومشروط بقوة المعاودة حيث يمارس عنفه التدميري لكي تنصهر الذات الممسرحة مع الجمهور، لكن هذا لا يمكن أن يخفي عنا التطور الموازي الذي عرفه التجريب خلال العقد الأخير، مما جعل نقد النقد يأخذ قوته الإضافية بحكم انتقاله من مدار النس إلى مدار آخر ويقول ادوار سعيد في هذا المقام: “هل تغتصب الفكرة أو النظرية قوة إضافية بحكم انتقالها من مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر أم أن الوهم يصيبها من جراء ذلك”(9).
وانطلاقا من هذا التناص نرى أن الذات تعمل على مقاومة السائد بكل ما يختزلها من هيمنة وأدوات التقويم من أجل تأكيد تمركزها، لأن المقاومة هي نوع من تحليل المعطيات وعلائق القصد لبناء معرفة تستطيع أن تسلط الأضواء بدقة على خصوصية الوضعيات المعرفية والإنسانية، لكن الغرب بدوره لا يفكر إلا في ذاته، وفي كل ما يشغل اشتغاله الجديد في المعرفة والفكر والثقافة باعتبارها قوانين نقدية صارمة وخطوات بيداغوجية تستمد روحها من الممارسة التي تراعي شروط الإنسان، لكن ينبغي أن نتساءل: كيف يتم قراءة هذا الحضور التجريبي في الذات المغربية؟ هذا السؤال يثير بدوره مشكلة من نوع آخر، من يحكم عقلنا، ومخيلتنا؟ وبماذا تقرا ذواتنا القولية والتعبيرية؟ فالقراءة لا تستدعي الملائمة وحدها، بل وحتى السؤال أيضا يحيل إلى احتمالات وممكنات التوعية ليجعل المخرج طارق برحيم وثلة من الشباب الممثلين يسحرون هذه العوالم ليصلوا إلى الفكرة الخالصة، والروح لكي يكون طقسا في إشراقته لذاته، أي أن هذه القيم المتعالية في نطاق الجماعة يثريه الرقص بالأجساد لكي تتخلى عن الحقيقة الحسية من أجل الوصول إلى التوحد الأجساد المضاعفة، لأن الإشراق والحلول هما اللذان يمنحان لهذا الجسد خلوده.
الجسد وتمسرحه الداخليü
إن الجسد هو أحد المعطيات التكوينية والجليلة للوجود الإنساني، فالإنسان يولد بجسده ويموت به، ففي جسمه ينضوي المجتمع، والأسرة والوجود والحياة، لكن كيف نقرأ مسرحية الليلة، دون خطاب اختزالي أو السقوط في التعداد الساذج، إذن كيف نبني فلسفة للجسد الممسرح؟
إن الجسد آلة، ومادة، فهو ذات الكائن ووحده، ونيتشه يرى بدوره أن الجسد هو سيد جبار وما الروح إلا أداته، لكن في قرننا العشرين وما بعده أحدثت الفينومينولوجيا ثورة جديدة ضد المفاهيم التقليدوية التي كانت ترى أن الجسم هو أداة للإنسان التي لا “أستطيع بواسطة أداة أخرى ووجهة النظر التي لا أستطيع بعد أن أتبنى حيالها وجهة نظر”(10). فالجسد هو كيان فاني، فعن طريق التعالي يخضع هذا الجسد لرؤية تحررية، ويقول الفيلسوف ميرلوبونتي “إن المرء يوجد كشيء، ويوجد كشعور، أما وجود الجسم بالذات، فإنه يكشف لنا على العكس صيغة وجود غامضة”(11) فالجسد إذن هو حقل متحول، وحقل الظهور، فهو علامة إنسانيتنا وذاتيتنا(12). فالمسرحية التي عرضت بدار الشباب بسيدي حي الغرب هي مسرحية تتلاءم مع جميع المواقف والتجارب، فهي حفل طقوسي، وحركة، وصوت، وصراخ، وأنين ضد الوجود وضد هذه الذات المستلبة، فهي تتراوح بين الأنا/ والآخر، بلغة إيروسية ولا لاشعورية، فهي سلوك اجتماعي تعتمد اللغة المنسية كما يسميها فروم ER. Froom من أجل التعبير عن القوى، ومن أجل اتخاذ موقف منها، أو التعبير عنها بأشكال رمزية، ودلالتها الأسطورية، والاجتماعية، والطقسية، فهذه الليلة هي منظومة رمزية وثقافية هامشية، حيث عملت مجموعة من الشباب بتفجير هذه الطاقة الباطنية من أجل محاكمة المسكوت عنه، وأيضا نظرية الواقع الممكن، والمعرفة، والوجود، وجعل الإنسان في اللازمكان، لذا فالذات الممسرحة تعلن انشطارها عن أناها من أجل الانخراط في اللامرئي من أجل طلب العفو، أو التسليم أو الوصول إلى الحلول والإشراق أو التملك الممكن Possessin، لأن الرغبات والدوافع كلها موجودة في هذا العالم الممكن لأنها عبارة عن جلسة تحليلية تفكك كل التداعي الحر وذلك من أجل معرفة الطبقات النفسية، حيث يقوم الجسد على مبدأ الترابط بين الأفكار لاستجلاء نظام ومحتويات اللاشعور، فالمسرحية تحمل منطقها الداخلي لأن من خلالها تصير الممارسة مخالفة للعقلانية، ويصير الخطاب يحمل موقفين موقف ظاهري وموقف باطني، حيث يمكن الكشف عنه من خلال عملية التأويل ويقول سيلفانو أريتي، “إن كل لا عقلانية لها عقلانيتها بمعنى أن لها غرضا خاصا وتنظيما عقلانيا خاصا، ولا تملك هنا إلا أن تندهش من مدى تعدد جوانب النفس، هذا الكل النفسي بمقدورنا أن نفهمه بمجرد أن نعرف الدافع النفسي العميق والميكانيزمات العقلية الخاصة”(13).
فالمسرحية هي نظام رمزي ترتكز على الوظيفة الاجتماعية والنفسية والرمزية(14). حيث تقربنا إلى عوالمنا الداخلية والخارجية، كقانون طاقي باطني، وكطريق ملكي لفهم الممكن، والمستحيل على المستوى البناء الرمزي واللاشعور الجمعي كما يقول كارل يونج، إذن فلا يمكننا تحديد عقلانية اللامعقول إلا من خلال الكشف والإظهار عن بنيته الرمزية كما قلت سابقا، تلك الرموز المرتبطة بالأساطير – كمليكة – وغيرها كونها تتمتع بسلطة مجسدة في المتخيل الشعبي، وهذا الاستنطاق للذاكرة الممسرحة هو تجسيد للفلسفة الأفلطونية، والرواقية، لأنها تحكي أسطورة الإنسان وذاته، وبين الجسد / والآخر/ وهي في إيحاءتها الرمزية تمنح للمتفرج أفقا جديدا، لكي يسافر في الحضارات وفي العوالم، لأن الذات الممسرحية تفجر الصمت كترسبات ماضية وكإيقاع جسدي ذي سمفونية أوروفيوسية مرتبطة بالنضال والوعي من أجل بناء رؤيا التي تعيشها الطبقة المهمشة، فالمسرحية إذن هي خطاب مضاعف وخطاب يمسرح الحياة والإنسان، والكون، لأن المخرج طارق بورحيم، ثور هذا العالم الغير المسيج لكي يسافر بنا في عوالم النفي والثبات، والإقصاء والحضور، والكائن والممكن، والوجود واللاوجود، فهذه الثنائية الميتافيزيقيا جعلت المقدس كفعل مدنس من خلال سلطة الحضرة والمواجهة، والإدانة، ومن خلال الانفلاتات المعبرة عن خصوصيات الذات في فردانيتها وهويتها، لأن المسرحية من خلال المعيش اليومي كما يقول المخرج فهو التمثل الذهني عند الإنسان، مما يجعل قراءتها داخل الزمكان وكلغة تضم المتجادر والمتزامن والمتباعد، مما يجعل تلقيها عملية صعبة، لأن المشاهد لا يرى المبطن بعين مجردة، بل ينطلب الوعي الباطني، والتجربة، والممارسة لذا يتطلب التبصر الجسدي ولغته، لأنها تحمل رسائل رمزية يكون فيها الإنسان هو هو، سوى في بعده التعبيري، أو في بعده الوظيفي، أو في بعده الفني والتصويري، لأن المخرج طارق برحيم عرف كيف يمسرح وجود الإنساني ويوزع كيانه بواسطة أجساد ممثلة، كي يؤثث هذه الحياة برؤية إنسانية لا إقصائية، هكذا عمل الممثلون على إذكاء جذوة التعبير من أجل أن تحيا في الداخل لا في الخارج كما يقول أنتونان أرطو في كتابه المسرح وقرينه”، ص: 36، كما يقول أنتونان أرطو.
ماهية الجسد وطبقة الاختلاف واللغويü
ويقول روجي دا دون “إن الجسد هو هذا الحجم الواقعي والجلد المجزا في المكان هو هذه البنية المادية المرئية القابلة للمس ذات الترتيب المعقد والحدود التي ندركها كمعطى مباشر من الشعور وبوصفه ملكا بوصفه انا من المنظور نفسه هو هذا الموضوع الخارجي الذي يماهيني معه الآخرون الذي به يعترفون الذي يكون في أغلب الأحيان الشيء الأول والأخير الذي يدركونه مني”(15).
إن العالم يظهر أمامنا كمجموعة لا متناهية من الأشياء أي مجموعة من الموضوعات التي تشكل الكون وتجعل منه كيانا قابلا للإدراك والمعاينة والتغيير، هذا العالم لا يتحدث ككون إنساني قابل لأن يعاشر في حدود انشغاله لتخزين كل من يستوعب داخله سلسلة من الأشياء بل لينتج عبر ميكانيزماته نمطا إدراكيا وليبقى هذا الأمر ممكنا من خلال الانصار ليحدد لنا شكلا وجوديا لحالات تشابه حالات التقابل الدرامي وحالات التطابق لهذه الأحجام والأبعاد والعمق والامتداد الجسدي لتخلق للأشياء بمعنى ولتخلق للدلالات معانيها.
فضمن هذه الأشياء المضمرة ينتصب الجسد كشيء مدرك وككيان مضاعف في هذه الأشياء، إذا جسد لا يتميز عنها في شيء من حيث هو موضوع ضمن مجموعة لا متناهية من الموضوعات، وكجميع الأشياء الأخرى، إذ يشكل نسقا ضمن الأنساق الأخرى تتوحد جميعها بالكون للبحث عن معنى الأشياء، حيث إن هناك جسدا إنسانيا بعيدا عن الطبيعة كعنصر يستوعب القيم ليستطيع إنتاجها ويعطي لها معنى ودلالة الإدراك لهذه الأشياء وليمر عبر وعي مركزي ليفصل بين الأشياء وليقوم بتهذيبها وترتيبها وتشكيلها ولتشكل عبرها كلحظة لتفصل بين جسد الشيء وجسد الحجم الانساني(16). لأن الحديث عن الحجم الإنساني يقتدي وعي الشيء لذاته كحالتنا نفسها، ومن ثم نكون قد تجاوزنا الشيء في ذاته كموضوع إلى ما يشكل عالم الإنسان في هذا الإطار، حيث يتجاوز الإنسان نفسه من خلال إنتاج حركاته وتنقله في الفضاء الركحي.
إن هذا التقابل بين هذين العنصرين ينتميان إلى نفس الكون، حيث يقودان إلى تقابل آخر، حيث يرتبط هذه المرة بالجسد نفسه وبحركاته وأبراجه وإنتاجه لحالاتنا الوجدانية ليعبر عنها إما من خلال إجراء الفعل، أو من خلال حالة الاسم، لدا يفترض وجود برامج (مجموع الحركات الدالة على تقسي، معين كالأكل، والشرب) فهي تكون مسبقة لتستوعب داخلها هذه الحركات وكذلك وجود سنن المضامين المسننة بشكل إيقاعي لكي تفهم كمعرفة سابقة ولتفسر لنا هذه الحركات ولترسم لنا دلالتها الحركية (كحركة جسم وحركة النص وحركة الرسم)، حيث تفترض هذه الوضعية السابقة عنها أن تكون نقطة في أية سيرورة مقبلة تفسرها وتؤولها لتشكل نقطة عودتها، إما كسند ليشكل الحزام الأمني بفعل يتحدد في الفضاء، وإنما كنص يفصل بين نقطتين صمت وإما أن يشكل لحظة فعل بين سكونين وفي الحالتين معا، حيث لا يدخل الوضع الدرامي ضمن التشكل النصي إلا في حدود اشتغاله كلوحة، حيث يتم خرق الصمت كسلسلة من الحركات الإيمائية، حيث أن السكون بدوره ينجز سلسلة من البرامج الإيمائية الجسدية. وبناء عليه يمكن القول إن الجسد الممسرح يلغي نفسه كموضوع ليكون منبع للغايات والعمليات والحركات النفعية الناتجة عنها كبعد ثقافي الذي يؤسس ابستمية كمرحلة من مراحل الجسد الركحي لهذا الجسد الدرامي.
لذا فتداخل المستوى العملي الطبيعي والمستوى الثقافي انطلاقا من زاوية التي تجسد كل منها إمكانيات توليد سلسلة من العلامات التي تدرك وفق قوانين وقواعد هذه الزاوية وتلك، حيث يتعلق الأمر بتداخل الثقافي والعملي الطبيعي ضمن تشكل ككينونة العضو الواحد وكمحاولة تحدد نصيب كل عضو من الأعضاء من الثقافي والجسدي ويتعلق الأمر في المرحلة الثانية بامتدادات الجسد خارج نفسه وتشكله لإعادة العملية الثقافية الجسدية من خلال العرض المسرح على المستوى الركحي.
يحضر الجسد الطقوسي داخل الفضاء المرسوم بوصفه لحظة تحينية، وكلحظة القدم في ماضيه، لكن هذه اللحظة التحينية ليست فعلا تكراريا أو مجانيا أو لحظة تذكيرية بل هي نقطة متممة لسيرورة زمنية قدسية نعيشها كعودة باتجاه اللحظة الأولى، لذلك يتخذ التحيين شكلا محاكاتيا. ووجودا ممكنا، حسب نيتشه، لأن الجسد الطقوسي جسد تحييني وتجديد للعلاقة بالقدسي، لكن فعل المحاكاة هذا لا يتخذ طابعا ماديا داخل الفضاء الطاقوسي، بل يتخذه عنفا رمزيا كجسد طقوسي، لا يقوم بأفعال العنف كالاتهام وأكل قطعة الزجاج أو قطعة الصبار أو افتراس اللحم النيء وشرب الماء الساخن) ولا كشفت لليومي أو البيولوجي، بل يتجسد بشكل استعاري للجسد المغاير، ليقوم بهذه الأفعال بشكل يومي مثل جسد الجمل أو الأسد أو اللبؤة ومن تم نرى أن العنف المتولد عن فعل المحاكاة حيث يتأسس على المقدس وأن موطن حصوله ليس كجسد الواقعي، وإنما الجسد والرمزي، حيث تتضح أكثر حينما يتبين أن فعل الممارس من طرف الجسد الممسرح كونه فعل تحييني وعنفي وهو أيضا فعل صوفي وحاكي وسارد لأن طريقة الحكي لا تبنى إلا بالحكي وعبره وفيه ومن خلال إبداع مسافة فاصلة بين لحظة الإيثار القدسي ولحظة التحيين التي يعيشها الممثل على الركح، فالجسد هو رؤية نقدية للعالم وانتصار للحرية وقيم العدالة، والجمال.
وبناء عليه يحيل الجسد الطقوسي على الخطاب. المجسد كطقوس تحكي عبر المحاكاة وعبر السيرورة الزمنية الممتدة منذ الحظة الأصلية، فهي الموضوع المحكي لهذا الجسد الطقوسي ليتجسد كفعل إبداعي جديد، وليس عبارة عن تجربة مألوفية.
لذا تختلف تلاوين الحكي، باختلاف تلوين حضرة الجسد الطقوسي كحضور رمزي، لذلك يتخذ شكلا مبنيا بين الحضور والغياب لأن الجسد الطقوسي يتوجد داخل الحضرة المنسوجة بفضل المتخيل الجمعي والقدسي الذي يخترقه لتشكل من هنا فإن الحكي الدرامي يحتاج إلى فضاء قدسي يلفه ليضمن تواصله، وليستوجب الحضرة حضور الأجساد واللباس وكعلامة لغوية ورموز إحيائية التي تقربنا إلى العالم الذي لا يمعن رؤيته بالعين المجردة، بل عن طريق التجربة الباطنية نستطيع أن نتواجد مع المضمر والمستوعب لرؤية التراجدية التطهيرية كدائرة منسوجة ومخطوطة بأجساد الآخرين أو المتفرجين كون الدائرة التمسرحية هي أكمل وأجمل أشكال الهندسية، كما يؤكد المخرج وثانيا أن الشكل الهندسي يمحور حول جميع الأشكال الهندسية كمركز للجسد. لأنه داخل المتخيل والدين وفي أصل جميع المنطوقات اللغوية القدسية.
لذلك يمكن للحضرة أن تكون للجسد الطقوسي لأنه يشكل الخط للفضاء القدسي المحيط بمركز دائرة الحضرة. وهو ما يسمح للجسد الطقوسي بتحويل متفرجين إلى متطورين ومشكلين وفاعليين داخل، لأن المتفرج يتحول بدوره إلى عتبة أو باب رمزي ليعين لحظة التقاطع بين القدسي والدنيوي لكي يغوص في العوالم الممكنة.
فالمكان هو حضره الجسد المتشابكة كاللون الموسيقى والبخور والأضحية ولكن العناصر هي حكايات التي يسردها الممثل بأدواته المميزة في لحظة محدودة من الحضرة ليركب الجسد كل الحكايات وينقلها إلى مستواها الجسدي المتعالي والإشراقي.
لأن الأشكال الإيقاعية الموسيقية المرافقة لحضرة الجسد تتعدد حسب اختلاف الطرائق والمناطق التي يتواجد بها اتباعها، وفي هذا الإطار نستعرض نمط خاص من الموسيقى المرتبط بالعرض المسرحي الذي يتوقف على أدوات الجسد الذاتية من دون حاجة إلى أدوات برانية. وداخل هذا النمط يشكل الضرب اليدين على الصدر بالنسبة للرجال والصدر المحتجب بالنسبة للنساء كإيقاع في حضرة الجسد. كما يعتبر زفير الجسد محطة فاصلة بين الإيقاع الذي هو الضرب المنتظم باليدين وعلى الصدر كأدوات تصنع إيقاع بتزايد ومتصاعد لينتهي بوقفة مفاجئة للمرأة أو الرجل أيضا، ثم تعرية الرأس بالنسبة للمرأة هو الانغماس الكلي في الحضرة إلى أن يصل الجسد إلى قوة وفرحة خصوصا من طرف الممثلين الذين يعلنون للكل أن هناك جسد، غادر الزمن الواقعي وانخرط في الزمن القدسي. لأن ما يثير انتباه في هذا الإطار هو الكيفية التي يصنع بها الجسد الموسيقى ذاته بحيث أن الصوت لا يخرج من الفم ومن القفص الصدري بشكل الذي تلتقطه اليد مباشرة من الصدر وتخرجه عوض أن يتبع طريقة تشكله العادي باتجاه التخريج الكلامي، ثم الكيفية التي يظهر بها كصمت الموسيقى في ذاته، وذلك بتحويل الصوت المشكل إلى حركة إيقاعية منتظمة وموزعة بين حركتين اثنتين: حركة الوقوف (انتصاب) ثم حركة الانحناء (السجود) بالشكل الذي يصبح فيه الجسد ممددا على الركح لينخرط في الحضرة بشكل تدريجي، حيث تتم حضرة الجسد بعينين مغمضتين، الأمر الذي يسمح لنا بالقول بأن جسد الحضرة هي أجساد تتراقص كأداة رئيسية وكإيقاع منتظم داخل فضاء الحضرة، لأن استعمال الذات الرمزية هي امتلاء قدسيا، فاليد عضو حامي للجسد ككل وإنهاء حماية رمزية وبما أن اليد حاملة لاسم الله والأسماء الحسنى فهي أيضا الحاملة للعين الحامية من كل عين غائنة، فاليد إذن هي فاتحة الجسد وعلى مساحتها يمكن قراءة كل حكايته وفك رموزه وطلاسيمه.
فقراءة الليلة هي ثورة ضد الرقيب، وتحديد لسمات المدنس وتجاوز للدلالة النصية، حيث يغذو الجسد في التخلص من الماضي ليلتطم بالمجال الدرامي لحضور القلب بويكا (الصدر) لترتفع درجة نبضه وحركاته وليكشف عن وظيفة قدسية إلى جانب وظيفته البيولوجية، ومن ثم فإن موسيقى الجسد الطقوسي المنتج بهذه الكيفية ليس سوى تلك المراوح المنتظم، أو الأثر المتبقي من الالتقاء القدسي العنيف بالرمزية الحاضرة على الركح، فعين جسد الحاضر هو القلب وهو حضور عيون الجسدية القدسية التي تختفي وظيفة العيون الطبيعية لتنغلق بالأذهان وليصبح الجسد الطقوسي داخل فضاء حضرته جسدا من دون عيون طبيعية، لأن الممثلين يتعايشونه مع اللحظة الجوانية كأجساد تستحضر الممكن والمتعدد في الوحدة في التعدد لأنه المخرج يعرف كيف يحرك هذا الأجساد الفانية ليستحضر الأجداد المتحولة لتقول من نحن في هذا العالم.
فالإبداع حسب طارق بورحيم هو خلق والتطهير نوع من التخيل المثمر والخالق والمخلوقات وإبداعية فهي الدعوة نحو الإبداع، فالتخيل هو أكثر تلقائية والإبداع التمسرحي يؤدي بنا إلى حلول مشددة إلى الواقع لما نشعر به من مشكلات بمعنى أن الوصول إلى الحقول يمكننا تحقيقها في العالم الواقع.
فالإبداع وفقا للمفهوم السيكولوجي ليس مجرد محاكاه الموجود، وإنما هو اكتشاف للعلاقات والوظائف المتعددة بين هذه الأجساد المتناقضة والمتوحدة في هذه الليلة الممسرحة. حيث أن هذا الجسد يصبح جسدا واحدا ووحيدا ومرآة عاكسة تكشف الحجب لتصل عبر هذه الرحلة الخيالية من الحلم واليقظة إلى المشاهدة. فانطلاقا من الطرح ندرك أن هذا الجسد الدرامي هو جوهر العملية الإبداعية والاجتماعية نستطيع أن نعرف هذه العلاقة القائمة والمبنية على السلطة الدراسية التي كانت يتمتع بها الجسد وهذا الحضور السلطوي الرمزي يرتبط بحالة القوة والقانون الوضعي الذي يقوم على إبراز الحرية للقيم التسلطية والقادرة على الخروج من الذات المغلقة من أجل خلق مشاريع جديدة لهذا الجسد الممسرح.
فهذا المسار الذي ذكرته يرتبط بالتاريخ الاجتماعي والنفسي والتلقي والتأويل والتفاعلي والموضوع والسميائي والفلسفي المقارن، فكل هذه المناهج غايتها هي الكشف عن المعنى المبطن، لكن فهم مرجعية هذا المخرج المبدع جعلنا ندرك أن أطروحاته تستدعي التأويل والتفسير والإفهام من أجل جعل النص (كعلامة وإشارة وأيقونة). فالليلة هي تجسيد وجودي وفلسفة أخلاقية غير عقلانية، لأنها تستوطن المتحول والمتناقض من أجل فهم هذه اللغة الجسدية حسب تعبير المخرج طارق بورحيم.
الهوامش:
(1) – دافيد لوبرتون، “سوسيولوجيا الجسد”، تر: عياد أيلال وادريس المحمدي، ط 2، روافد للنشر والتوزيع – القاهرة 2015، ص: 8 – 9.
(2)- الحسن حما، “طقس القربان”، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2014، ص: 30.
(3) – أحمد الطريس أعراب، قضايا المنهج في اللغة والأدب، مقال، تحليل الخطاب الشعري، دار توبقال، 1988، ص: 83.
(4) – حسن المنيعي، الجسد والمسرح، سندي، مكناس، ص: 1.
(5) – أحمد الطريسي، قضايا المنهج في اللغة والأدب، مرجع مذكور، ص: 78.
(6)- عبد الفتاح كليطو والاخرون: المنهجية في الادب والعلوم الإنسانية، دار توبقال البيضاء، 1988، ص 38.
(7)- جيل دروس فلسفة كانت النقدية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت، 1997، ص 28.
(8)- تأليف جماعي مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ترجمة رضوان ظاظا، سلسلة عالم المعرفة، م.د.، منسق الشنوفي، مايو 1997، ص: 95.
(9)- ادوار سعيد، عندما تسافر النظرية، ترجمة كمال مصطفى، بيت الحكمة، عدد 2، ط 1، 1986، ص 139.
(10)- جاك بول سارتر، “L’être et le néant”، باريس غاليمار، 1943، ص: 194.
(11) – ميرلوبنتي Phénomonologie de la perception, Paris – Galle 1945, P 188.
(12)- ميشيل مازرانو، “فلسفة الجسد”، تر: نبيل أبو الصعب، طريق المعرفة، ص: 8.
(13)- سيلفانو أريتي، القصامي، ترجمة أحمد عاطق – س – عالم المعرفة، ع 156، ص: 73.
(14)- سيموند فرويد، تفسير الأحلام، تر: مصطفى صفوان، دار المعرفة القاهرة، ص: 360.
(15)- روجي دادون، مجله “علامات”، العدد 4، 1995.
(16)- سعيد بنكيراد، مجله “علامات”، العدد 4، 1995.
(17) – جان بران، “الرموز والسحر”، مجلة العرب والفكر العالمي، ع 13 – 14، ص 173.
(18)- أنتونان أرطو احمد، دار الثقافة العربية 1973- القاهرة، ص 25 -42 – و74.
(19) – جورج ولورت، “مسرح الاحتجاج والتناقضات ترى عبده، تر عبد المنعم إسماعيل، ص 36.
(20)- Aprtaud “Messages Reval.
(21) – سامية أسعد، الدلالة المسرحية، عالم الفكر، ع 4، سنة 1980، ص 76.
(22) – المرجع نفسه، ص: 80.
(23)- فيديريك نينتشه “هكذا تكلم زارد شت”، تر فليكس فارس، بيروت ص 146 – 147.
(24)- الحسين الحايل: الخيال أداة للإبداع، مرجع مذكور، ص. 23.
يتبع
الجسد والتمسرح المضاعفü
غالبا ما طرحت هذه المسرحية ظلالها حول التأمل الذاتي كجوهر للقيام بأبحاث حول هذه القيم بواسطة أجساد ممثلة دون جعل هذا الجسد عائقا للمعرفة ولا للقضية، إذا فإن أي قراءة تحل مفارقات علائقية بالجسد يدعون لإعادة التفكير في هذه المرحلة الانتولوجيا والزمانية، فهي أيضا طريقة لقيم ووظيفية رمزية في حياة الممثلين والممثلات، حيث يساهم الكل في القيم ولمشاركة على مستوى البناء الرمزي(1) فالتمسرح الذي نسجه طارق بورحيم جعلنا نغترف من مسرح القسوة Arfaud الذي يرى المسرح انعكاس لما ينبغي أن تكون عليه الحياة في الليلة، حيث لا يهمنا أن توجد في وجداننا إلا من اللحظات التي يبدأ فيها المستحيل والممكن يظهر، ليغزو مشاعرنا التي تهدم أسوار العقلانية من أجل بناء المشير لهذه التوحيدات البدائية وهذا الاستنطاق للذكر، فهي ارتقاء الثقافات والطروحات المتنوعة التي تعج بقضايا الواقع والأحداث التي تمس الحياة الروح والجسد والنفس والذات(2) مسرح بروميتيوس لا يقدم الوصفات الدوائية، بل يقدم للمتفرج سيدي يحيى الغرب الحقيقة المكونة للحلول الاجتماعية التي توجد وراءنا ولحظات سمو الروح، إذن يتطلع المخرج طارق بورحيم إلى تقديم رؤية تمس الديمومة والسرور والخليقة بهذا الجسد، والطبيعة والمعرفة، فهذا كله هو العودة للأبدية كما يقول نتشه، لمعرفة من يرقد في لا وعينا الشخصي والجماعي، فهذه الرحلة هي ارتباط بالمدنس من أجل الوصول إلى المقدس حسب تعبير مارسيا الياد، لأنه تحطيم الفحولة الأدمية وشرب الراح البخوسي وأكل الخبز المسيحي من أجل اجتياح الدرامي ضد هذه العواطف الممنوعة من طرف المؤسسات(3)، فالمسرحية الليلة إذن هي ثورة ضد النزيف المقنع وضد العادات والتقاليد المقتتنة، فضياء الفكر الذي كتبه المخرج ككلمة ساحرة تعيدنا: أن نكتب يعني أن نمنع العقل بأنه تحرر في وسط الأشكال كعمليات التنفس واسعة(4)، إنه التمسرح من خلال هذا الفضاء الركحي لنرى الأشياء وجودها وكينونات الحياة، لهذا تصبح الرؤية الميتافيزيقية والديكور تمردا على المؤلف والعرض على النص(5)، حيث عمل الممثلون على استرداد الكلمة سحرها وقدرتها على هز عرش هذا الجسد المسيج بأقانيمه الثلاث (التخلف والجهل والأمية) لنرى العرض الذي هو منطق التعرية والمحاكمة والمنطقة للغة وسحرها وجمالها، وللجسد ككتابة إشعارية حسب تعبير جاك ديريدا فالممثلون إذا كتبوا بأجسادهم علامات هيروغليفية تمسك بين الأجساد لتجعل أربع كلمات كتعزيمات وغفران وجلول تهدف إلى إشارة الإحساس وإخماد سحره”(6).
فتحويل الأفكار الماضية إلى صور مرئية والأشياء إلى رموز والرموز إلى الإيحاءات، وإيحاءات إلى مواقف من الحياة والوجود والإنسان والسلطة والمعتقد والقسوة جعلت التحرر إذا هو الاستقاء والاستماع والبناء الأرضي ومحور معاناة الوجود ليؤسس الإنسان في جسده وروحه، لأن فساد الفكري الإنساني إليك كبنية فوقية التي تؤطر الإنسان وتجعلك عبارة عن الشيء المستلب وفق قانون العرض والطلب، وهذه الرؤية الاستغلالية جعل المخرج طارق يورحيم مع الممثلين أن يعيدوا على الخشبة نباتا جديدا تؤرج للجسد وليس للكاتب(7) إذا فإرادة الممثل والمخرج جعلت الجسد يخاطب المتلقي ليتخذ موقفا لا أن يندمج في اللعبة وأنه يعيش الكاتارتيس اليوناني الأرسطي، بل يعيش مرحلة التعالي والفضيلة، لأن الإنسان حامل معه الشر والخير، لأنه لا يحتوي على نظرية التي تسكنه كبعد ميتافيزيقي الذي تعطي له السيادة والتسلط لذا يقول نيتشه “ما كنت لافراد الخير عليك لولا بأنني أراك قادرا على ارتباك كل الشرور”(8) إذا في المسرحية تطرد المدنس وتحفر في المقدس دون وضع على الخشبة كخطاب أحادي بل تستحضر الرموز كصراع دائم الذي يمزق كل من العالم والإنسان من أجل خلق إنسان جديد. وبعد حضاري متنور، ومهما يكون فإن المسرحية هي أرضية مفتوحة قابلية لأن تستوعب كل الشرائط التأويلية لذا فإن هذا العمل يتطلب وقفات وتأملات وانسيابات وجودية وفي ميثولوجيا، بحثا عن متعة تحمل بين طياتها أسئلة جوانية وطبقات جيولوجية لتعرف عمقها وتاريخها، لأنه مدنس يعمل دوما على هدم المقدس ولكن سرعان ما يتزاوجان لكي تتخذ هذه الرحلة المسرحية استراتيجيتها الفرجوية والجمالية وأخيرا أشكر كل من ساهم من القريب ومن البعيد في إنجاز هذه المبادرة الشبابية التي تثري قلوب متطرب الأقلام وتملأ الأوراق وتمد الأبصار.
الصورة والجسد المضاعفü
لا يتأتى للجسد أن يوجد بدونه إحساس وخيال، ومتى لم يوجدا لن يتأتى وجود التصور الجسدي، وليس الخيال والتصور بمتطابقين”(9). ففي هذه الوقائع والأحداث الممكنة والمسجلة في الذاكرة المسرحية، لا تأخذ صولتها إلا بواسطة رؤية راوية تقاربية ومفتوحة “ينظر إليها الناس بأنها بعيدة المنال والتنفيذ، ونجد هذا النوع من التصورات الخيالية واضحة في الرسم، وفي الشعر، وفي القصص المثيرة، وتظهر مجسدة أكثر في الأفلام السينمائية التي تعتمد على هذا النوع من التصورات الخيالية”(10)، لأن الإبداع الجسدي لا يتجدد إلا بواسطة “المتخيل”، حيث يعرفه سعيد علوش، بأنه هو: “ما يتخيل الروائي هذا العالم كموجود، أي أن المتخيل قائم بالواقع المادي ولا يخرج عنه حتى في حالات الهلوسة والهذيان، إننا نتخيل بالأبيض والأسود، كما نتخيل بالألوان. ونحن مشروطون بالمعطيات الخارجية، حتى في الحالات الشاذة إذا لم يقع تخيل أحد منا لأشياء غير موجودة حتى في حالات الكتابات الروائية المستقبلة”(11). بهذا المعنى يصبح للمتخيل الجسدي وظيفة معينة في حياة الإنسان، إذ يعمد المتخيل على تجاوز الموجود وتخطيه لمعانقة الجسد.
أما “سارتر” حين تحدث عن المتخيل فقد اعتبره متعاليا يعطي موضوعه مباشرة كما هو، إضافة إلى أن الوعي المتخيل يتجاوز موضوعه وينفيه، في حين اعتبر “غاستون باشلار” المتخيل “دينامية منظمة، وهذه الدينامية المنظمة هي بمثابة عامل تجانس في التمثل”، لتوضح هذه الآراء والتعاريف فإن المسرحية في تمسرحها الجسدي جعلته يتخذ عدة أمكنة على مستوى الركح.
على أن مقاربة المتخيل ليست بالأمر البديهي، لأن تعبيرات الجسد ورموزه ودلالاته لا تستجيب للصرامة العقلانية، لذا حاولت أن تجعل من الصعوبة تحديد المعنى للجسد، لكن بواسطة الرؤية النقدية المتجذرة في التربة الركحية يتخذ المتخيل عدة تخريجات وتأويلات، حيث تبدو الصورة داخل المتن الحكائي مكانة هامة، فهي رابطة دلالية ووظيفية فإذ تأخذ شكل رموز أسطورية، ونفسية واجتماعية، لأن صورة الجسد التي تهمنا في هذا البحث والتي لها علاقة بالمتخيل التي هي الصورة المسرحية التي تستقي بعض حدودها العامة من اللغة والفلسفة والبلاغة وبعضها الآخر من المجالات الحسية والتخييل والتلقي(12)، فالصورة المسرحية للجسد هي التي تعكس الواقع الخارجي بطريقة فنية بلغة مسرحية، لهذا فهي تتحقق خاصية في الحقل البلاغي الجسدي، لتلتقي مع مفهوم الصورة من حيث أنهى الحسن البلاغي، والمعطى الجمالي الدال على الانزياح الفني، لكن الجسد يرتبط بالتخييل كأداة للتشكيل الجمالي، وليكتسب التخييل هنا معنى آخر هو “التأثير” والصورة لأن التخييل حقيقة ما أو أمر ما، يعني “إعادة صياغة تشكيل هذه الحقيقة تشكيلا جماليا مؤثرا، ليصبح معنى التخييل الجسدي هو التأثير والتشكيل، فالتشكيل هو المقدمة المنطقية، والتأثير هو النتيجة المنطقية المترتبة على تلك المقدمة، وقد أشار “ابن سينا أن التخييل الذي يحمل معنيين: فالأول معنى خاص بصناعة الصورة، والآخر الأثر النفسي المترتب على ذلك، ومن هنا فكلمة تخييلي تشير إلى ما هو محاكا وما هو انفعالي، أي أنها بعبارة أخرى تشير إلى الصورة من حيث علاقتها بالواقع، كما تشير إلى تأثير ما في المتلقي”(13). بهذا المعنى تكون صورة الجسد بمثابة إنتاج ثري بفعالية الخيال الذي لا يعني نقل الجسد أو نسجه وإنما: “إعادة التشكيل واكتشاف العلاقات الكافية بين الظواهر، والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة في وحدة. وإذا فهمنا هذه الحقيقة جيدا أدركنا أن المحتوى الحسي للصورة ليس من قبيل “النسخ” للمدركات السابقة، وإنما هو إعادة تشكيل لها، وطريقة فريدة في تركيبها إلى الدرجة التي تجعل الصورة قادرة على أن تجمع الإحساسات المتباينة، وتمزجها وتؤلف بينها في علاقات لا توجد خارج حدود الصورة، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صورة بصرية فحسب، بل تثير صورا لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها منبع الإدراك الإنساني ذاته”(14).
انطلاقا من هذا المفهوم يتجلى أن الصورة المسرحية للجسد تتجذر عمقا في تربة الجنس النقدي للمسرح، بما أنها إفراز خيالي ونقل لغوي لمعطيات الواقع، لتتحقق في فضاء الجنس الإبداعي، وتتفاعل مع باقي مكوناته، وتواكب تفتحه على الأجناس الأخرى، ولا تنبني أبدا عن مسايرة القراءات المعقدة، وامتدادات المتن برمته، ولا عن تشكلها وتجسدها للمتلقي في آلاف الأوضاع والأحجام والمواقف والألوان”(15)، فالصورة الممسرحة هي إجراء لغوي ونسق بلاغي بصريي ووسيلة فنية، وأنها صيغة يوظفها كل من مبدع المسرحية وناقدها. وما نود التأكيد عليه هو أن صورة الجسد باعتبارها نتاجا من إنتاجات المخيلة والحس الإبداعي حيث أصبحت أداة حاسمة من أدوات التواصل، سواء اعتمد هذا التواصل على العقل أو على غيره من الملكات التي يجوزها الإنسان، وغدت رموز المتخيل بالتالي مصدرا من مصادر التبادل على الصعيد الثقافي والإنساني”(16). فالكتابة على اختلافها، مجال غني بالعمل التخييلي وبصورة ومجازاته الدرامية وتشبيهاته، حيث يبقى للفكر الغربي منها الريادة إما باسم العقل أو اللاعقل، ديكارت” اعتبر أن المخيلة عنصر تشويش على عمل العقل، لذا وجب إقصاؤها من عملية المعرفة، لكن هذا لا يمكن أخذه بهذه الصيغة؛ لأن الإنسان ليس عقلا فحسب بل ملكات فكرية وتخييلية، لذلك فإن المتخيل في هذا الإطار “يمثل مستوى تعبيريا يكثف تجليات الجسد وصيغ اللغة الدرامية وأشياء الواقع، وهو بقدر ما يجمع بينها، أي بين الجسد واللغة والواقع، يفصل بينها، لأن المتخيل يتميز دوما بالتوتر سواء في اتجاه توظيف إرادة للقوة أو في أفق الانطلاق والتحرر”(17). ليلعب المتخيل بصوره وظواهره السردية دورا مهما في الامتداد المسرحي، لإفراز احداث نابضة تمكن من تحقق النص جماليا وفنيا ليدخل في علاقة مع سائر مكونات العمل. إن المتخيل كصورة تفصيل لغوي هادف داخل المتن، مختلف الألوان والخطوط والحوافز، يتحقق فنيا إذا صيغ بإبداع وإحكام، وفق شروط البناء وارتباطه بالشبكة النصية) وكل صياغة من هذا القبيل لابد أن تتسم بالتوازن والطرافة. ويرى “دوران Durand” ضرورة تحديد الصورة باعتبارها رمزا”، لأن المتخيل كصورة رمزية يتجانس فيها الدال والمدلول. تجعل الصورة الرمزية المتخيلة “عامل تجانس في التمثل”، فمجال المتخيل وحقل الرمز الجسدي هو تخط للواقع، لأن الصورة تمثل لشيء ما بواسطة اللغة في انزياحاتها التي تخلق عالما من التمثلات والدلائل ليكون الجسد “الرمز إذن هو تمثل يبرز معنى مستورا، هو تجل (piphanie) للغز ما”، وتتجسد الصورة أيضا في التداخل الوظيفي بين الزمان والمكان، يضبط ميخائيل باختين M. Bakhtine هذا التصور المنهجي للجسد عبر مستويين “فهذا النمط من التصوير هو ضبط أدبي تحت اسم الكرونوتوب Chronotope من حيث هو تداخل كلي شكلا ومضمونا بين المكان والزمان. ويمثل الكرونوتوب أهمية أساسية في مجال الأجناس الأدبية، لأن صورة الإنسان في الأدب هي دائما بالضرورة زمانية ومكانية”. والثاني هو الصورة المسرحية يتداخل الفعل الخيالي وبتراكب أبعاد الفضاء بكل عناصره، مما يجعلها تعرف نوعا من التوتر والتكثيف لتفصح به عن سمات جمالية وأدوات فنية تزيدها عمقا ودلالة.
فالجسد المتخيل بعناصره ومكوناته، هو فضاء ومجال واسع وخصب، حيث يصعب الإحاطة بجميع مفاهيمه ومقوماته. وذلك ضمن النسق التاريخي والوصفي، والذرائعي دون أن ننفصل عن القراءة الحدسية التي تدعم الفرضيات والمصطلحات فهذه المقاربة على أهميتها لا تلغي السؤال الذي طرحناه، بل إن هذا السؤال هو صياغة جديدة لإشكالية هذا الجسد، حيث أن المسعى هو تعيين العلائق والاختلافات في آن، أي البحث في هذا الذي يستحوذ على الجسد المسرحي العربي من غير إرادة منه، تلك أن ارتجاج الأبعاد الفكرية والاجتماعية ليحل دون إعادة ترتيبها على الدوام، مما يدفعنا إلى البحث عن هذا الغياب كإشكالية تجمع بين الوعي الجدلي والكتابة والقراءة؛ بمستويات تستدعي بعضها، وتتجاوزها، لتتداخل عبر شبكة علائقية ولتمتد بين الكينونة والذات. إذن فالوعي بالذات هو وعي بالممارسة الجسدية، لأن فعله لا يكون بريئا إلا داخل المكانة التي يحتلها في الوظيفة التواصلية، بذلك يكون الوعي النقدي خصيصة بنائية في التفسير والتحليل، وكل إعادة تأمل في ممارسة المسرح الحديث، سنجد بالضرورة في هاتين الوظيفتين ما نعيد به قراءتها لكل من الأصالة والمعاصرة، والتأسيس والتحديث، وقد كان المسرح العربي منذ “مارون النقاش”، كتابة تضع قواعد صارمة للفرجة، ولكن المسافة التأويلية هي قراءة ورؤية وغناء توسع إمكانية قلب مفهوم البعد الغنائي والملحمي والمسرحي حسب طرح “جيرار جنيت” و”باختين”(18)، مع منح المفهوم النقدي حواريته كجنس درامي وجسد إبستيمولوجي يلازم كل ممارسة تصل إلى موضوعها، إنها الغاية الطبيعية لكل خطاب حي، لأن الخطاب النقدي يلتقي بخطاب آخر في جميع الطرق المؤدية إلى موضوعه كما قلنا، وليس باستطاعته ألا يدخل معه في تفاعل حي وشديد حسب تعبير “بورحيم” حيث تتلاقح الأصوات في شأن الحوار بين الناقد والنص الدرامي، فيما يتحول النظام التمسرحي والفني إلى رؤية شمولية لتضفي على نفسها هالة من الجدة والأصالة، غير أن الافتتان به لا يلبث أن يلغي ويمحى، خالقا فراغات، لذا حاول طارق نقد مفاهيم تأصيل الظاهرة الثقافية والاجتماعية التي تحكمت بوجوده، ويقول أحد الباحثين “إن عدم براءة أي منهج وارتباطه الإيديولوجي يعنيان أننا حين ننقل منهجا معينا إلى واقع مغاير للواقع الذي نما فيه، فإننا نتجاهل كل الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي تحكمت بوجوده”(19). إن القول بتجاهل مرجعية صورة الجسد في النقد المسرحي يصدر عن فرضية هي أن المرجعية ليست غرضا سلميا، ولكنها خصيصة بنائية للنص الدرامي له تاريخه المسجل في الممارسات الركحية ذاتها عبر التعدد اللانهائي لإيقاع الذوات الكاتبة والمخرجة، ولاشك أن إخراج بورحيم هو فكر مسبوك بذهب درامي، بلغ غنائيته غاية التعدد دون اختلاف للذوات، حيث يكون التصدع والاختلاف، ويكون البعد المتعالي والكلام المسترسل هو الذي يحكم كل الأجساد والأصول الممسرحة، وهذا الحكم رغم برانيته لا يدعي المطلق، بل يعتمد المغامرة كطريقة تعيد الصعب، لتتخلص من الذاكرة المسالمة، ولتقتحم المتاع المعرفي الجسدي، لأن الممارسة التمسرحية لها أمكنتها المتعددة، كما لها برامجها التواصلية تكون متفاعلة مع الخارج ومنفعلة به في الوقت ذاته.
فهذا التفاعل اللانهائي إن صح القول، يعطي للجسد المسرحي سمة موضوعية تتجاوز شهوة الذات، قصد إبداع وخلق نقلة نقدية التي تكون مشروطة بالتاريخ، وتكون أيضا موسومة بالتعدد على الصعيد (البينذاتي) Intersubjective(20)، أي باختلاف الذوات كما قلنا سابقا، حيث يكون التأويل جوابا ممكنا للسؤال المختفي بنفيه في السابق، ما التمسرح؟ هل هناك نقد مسرحي عربي؟ وهل نملك تراكما نقديا؟ أم لازلنا نعتمد الصيغ الخبرية والفرضيات الغربية؟ أسئلة تمنطق ذاتها لتجد شروط الإجابة ضمن نسق غير حسي، بل في تجربة زمنية بكل مقوماتها وأبعادها، ويقول أحد الباحثين: “فزمن التجربة ليس تراكما للحظات متلاحقة، بل تیار جارف المحتويات الوعي، ففيه تقوم الحياة الشعورية بمختلف أنحائها وأبعادها، وهو حاضر بالذات”(21)، فالسؤال النقدي التمسرحي، هو سؤال كينوني جسدي يتجاوز الدراسة الوثائقية، ليقترح تأويلا يعطي للمقروء دلالة وليجعلها ذات معنى بالنسبة لمحيطها الدرامي والفني والجمالي والاجتماعي. ومن جهة أخرى تحرص القراءة النقدية على جعل المنقود معاصرا لنفسه على صعيد الإشكالية، والمضمون الإيديولوجي. لأن النقد المسرحي نقد لا تاريخي” يفقد الموضوعية، لذلك كانت القراءة للمتن المسرحي بورحيم، قراءة لا تنزه النص بل تستمد منه إيقاعها ومشاكلها، باعتبار أن الممارسة النقدية لا تأخذ قيمتها إلا من خلال نقد الممارسة، بهذه الطريقة يكون النقد عبارة عن قطيعة، لا بمعناها اللغوي بل بالتخلي عن الأحكام القيمية والقياسية، والتي لا تعمل على تفكيك أجهزة العمل المدروس. إذن كيف نبني لأنفسنا جسدا مضاعفا؟ تلك هي المشكلة التي لازال الفكر العربي لم يجد بها صيغة علمية تلائم موقعه وواقعه، لأن أغلب القراءات حسب الجابري ، مغلقة بطقس ديني وإيديولوجي، لا تكشف عن ماهية السؤال، ولا تبني الحوار بين اللغة والذات، بل إن الاعتماد على الاختلاف والمغايرة الدليل على التحول الذي ينبغي أن يسلكه الناقد والمثقف، قصد بناء تصورات وأنساق النظرية والاجتماعية التي تصير بدورها حقائق مادية موضوعية. ينبغي أن تضيء المسافة بين الداخل والخارج، لتتحول إلى شعرية تقلب المواقع، لتصنع التماهي، فهذه الإشارة النقدية لا تصطنع التماهي على نحو تناصي مهين، بل تبني استعاريتها الاسترجاعية بلغة تشيع على نحو خاص في افتتاحية هذا المبحث؛ إذ يتكرر هذا النسق النقدي لتثبيت حالة الاسترجاع اللانهائي لخلق ثنائية ضدية التي تستطيع بواسطتها ملامسة مكونين دلاليين.
الخاتمة
فالمسرحية “الليلة” قدمت لنا إضافة جديد للمسرح عبر صياغة مفاهيم وتصورات معرفية، بغاية بلوغ فهم عميق لظاهرة المقدس والمدنس وخصائصهما العالمية، والأنطولوجية، فقد ميزت بين ثلاثة أشكال من تبديات ظاهرة المقدس عبر التمسرح المقدس الجمعي، والمؤسساتي والفرداني كخطاب متوازن لتحقيق التوازن الفعال بين متطلبات الروح والجسد باعتبارهما تجربة إنسانوية وتاريخانية تخضع لشروط الفعل الزمكاني والإبستيمي. وقد شارك في هذه المسرحية ثلة من الطاقم التقني والتشخيصي نذكر منهم على مستوى السينوغرافيا – تهامي خلوق وأحلام دافنتشي، والملابس نادية مجاهد، وإخراج طارق بورحيم، والمحافظة العامة أمين البطبوطي، وإدارة الإنتاج العياشي الفطس، والإعلام محمد بلمو، والتشخيص أحمد البرارحي، وحمزة بومهراز – وسعاد أوكدور ولبنى بوطيب، ومرراد فدواش، والمؤلف عبد اللطيف الطيبي.
إنجاز:
– الغزيوي أبو علي
– بن المداني ليلة
الهوامش:
(1)- المرجع نفسه، ص: 19.
(2)- سعيد علوش: الرواية العربية واقع وآفاق، دار بن رشد للطباعة والنشر، ط. 1، 1981، ص: 203 – 204.
(3)- محمد أنقار: بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، مكتبة الإدريسي، ط. 1، 1994، ص. 13. 2.
(4) – ألفت كمال الروبي: نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، دار التنوير، 1983، ص. 117.
(5) – جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، دار التنوير للطباعة والنشر، بیروت، ط. 2، ص. 309.
(6) – محمد أنقار: بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، مرجع مذكور، ص. 18.
(7) – محمد نور الدين أفاية: المتخيل والتواصل عند العرب والغرب، دار المنتخب العربي، ط. 1، 1993، ص. 7.
(8) – محمد نور الدين أفاية: المتخيل والتواصل عند العرب والغرب، مرجع مذكور، ص. 8-9.
(9)- میخائیل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة: محمد البكري، يمنى العيد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1985. وانظر كذلك: Esthetique de la création verbale.
(10)- جورج زيناتي: مقال: نقل المنهجيات الغربية والواقع العربي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 8-9، سنة 1980، ص. 130.
(11) – أنطوان الخوري: مقال: السؤال على السؤال، الفكر العربي المعاصر، عدد 4-5، 1980، ص. 43.
(12) – انطوان الخوري: مقال: السؤال على السؤال، مرجع مذكور، ص. 51.
(13) – محمد عابد الجابري: نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، دار الطليعة، بیروت، ص. 36.