في سياق إغناء استمرار الصيرورة الإبداعية بين الأجيال الفنية، وانطلاقاً من الوعي بضرورة تلاقح التجارب الجمالية وتصادي الحساسيات والتعبيرات الفنية المختلفة في مرجعياتها ومنطلقاتها وفي درجات نضجها وتكريسها وحضورها الإبداعي، يحتضن رواق البنك الشعبي بالرباط معرضاً فنياً يحمل وسم “مديح اللون”، ويضم الأعمال التشكيلية الجديدة للفنان التشكيلي المبدع سيدي محمد المنصوري الإدريسي، الذي أبى إلا أن يحتضن، في تجاور خلاّق وتلاقح بهي، أعمال الفنان الموهوب محمد الشرقاوي سلامي، دعما منه للمواهب الشابة وتهيئ الفرصة المواتية لهم لعرض أعمالهم الإبداعية، وذلك توثيقاً للوشائج الإبداعية التي تصل بين الأجيال، ويحتضن فيها الجيل المكرّس الجيل الواعد.
حضر المعرض عدد من الشخصيات العامة والمعروفة وكبار المسؤولين والمشاهير وعدد من المثقفين والصحفيين. ويستمر إلى غاية 31 غشت 2022، في ما يلي شهادات عن تجربة الفنان سيدي محمد الإدريسي المنصوري:
بنيونس عميروش
فنان تشكيلي وناقد
محمد المنصوري الإدريسي
من المرئي إلى الطبيعة الداخلية
إن أكثر ما يشد العين في الطبيعة هو فتنة اللون بالدرجة الأولى. لعله العنصر الذي يتخذ قطب الرحى في لوحات محمد المنصوري الإدريسي، المطبوعة بسخاء كروماتيكي مُلفِت يقربنا من جاذبية الطبيعة، بقدر ما يحيلنا على مخزون الحبور والمرح في نفوسنا، إذ تُقْحِمنا القماشات داخل مناظر احتفالية تنسجم فيها الإيقاعات عبر نوع من “السماع” البصري الموصول بأنساق ضوئية ترسم الحدود وتُرَتِّب التدرجات دون أي تهيُّب من فيض المادة اللونية ومجراها.
نحن بصدد متوالية كروماتيكية مسترسلة، بحيث كل لوحة هي بمثابة استكمال للسابقة وبداية للاحقة، بالشاكلة التي تتكامل فيها الأعمال وتتماهى لاستدراج امتدادات المرئي واللامرئي، كما هو الشأن في استقبال مشهدية التراب المُزْهر والمترامي الأطراف، فيما الأجساد المنبثقة من رحم اللون، تزكي البعد الأنساني وحضوره، ك “موتيفات” طبيعية بدورها، للإحالة على الاعتبار القائلبالأصل الترابي الكامن في الكائن البشري الذي يعود إلى التراب بعد الممات فيتحول إلى سماد نباتي، كي يُزْهِر من جديد. بينما انبعاث الأجساد الراقصة، المختزلة والأنثوية بالتشديد على انْحِناءات النَّهْد والرَّدْف، إنما قَصدية للثَّناء على تأنيث الطبيعة الوَلود المتناغمة مع المرأة الوَلود.
ما هي نسبة عنصر الشكل Forme في الأعمال؟ يبزغ الشكل كهيْئَة تستوعب مسارب اللون عبر التَّدفُّقات والتَّدرُّجات، فيما يتماسك لرسم الحدود والفواصل، وبخاصة في حال الألوان المتكاملة، حيث يتشكل عبر توليفا لتضاداتContrastes اللونية القائمة بين البارد والساخن، الداكن والفاتح. غير أن الرؤية اللَّامَّة للوحة تجعل الغَلَبَة للون، في الوقت الذي تتداخل فيه العناصر عن طريق استعمال الأسلوب التأثيري الذي لا يعتمد على الرسم الأولي (الشكل) بقدر ما يقوم على مدى تجاوب لمسات الفرشاة مع الانطباع المنخطف والسريع تجاه الأجواء والأضواء. غير أن هذا لا يعني أن محمد المنصوري يشتغل بوصفة “مونيه” أو”مانيه” أو”سورا”، إذ لا ينقل المرئي المبسوط أمام ناظرَيْه، بل يستند إلى التأثير الذاتي الموصول بملكة التخييل التي تمنحه طاقة إبداعية مدعومة بحرية متناهية. من ثمة، يمكن تصنيف أسلوبه داخل نمط من أنماط الانطباعية التجريدية التي تجعله في وضعية تعبيرية مُريحة تقتَسِم التقنية الانطباعية مع التصور التجريدي الحر والمنطلق. التصور المنبثق من الدواخل الروحية المشدودة للجمالية الطبيعية التي تضع البعد الإنساني في صلبها، من خلال التَّحْلِية والدلالة والترميز.
هكذا يمسي الأسلوب مُدْرَكا بالذهن والحواس، وبمَعين التقنية يتحقق المُراد المُضْمَر في ثنايا الرؤية والتطبيق. فلِلْيد باعها في التشكيل والإنجاز بعامة. لطالما زرت الفنان في مرسمه بالرباط وعاينت طريقة تصويره وتفانيه في تجويد عمله وتطويره، دون أن يُغنيه ذلك في تجريب أساليب أخرى، ومنها إصراره على العودة – بين الفينة والأخرى – إلى الأنماط التمثيلية، اقتناعا منه بأهمية الحِرَفية الأكاديمية التي يمكن تصريفها حتى في التعبيرات المفرطة في التجريد. وذلك ليس بغريب عن سيرة إبداعية دأبت على التعلم والبناء الواعي والمتأني منذسن اليفاعة: ” منذ الصبا استرقتني أهواء الصباغة والرسم. كانت المدينة القديمة للرباط وسطا ملائما لنمو هذه الغواية، إذ فضلاً عن جاذبية المكان (قصبة الأوداية) بالتحديد، فإن سوق المدينة كان بمثابة سوق يومي للون الذي تبدعه يد الصانع التقليدي، كما منحتني المدينة القديمة هبة التعرف عن قرب، على الألوان التي تبدعها ريشة رسامين مقيمين وثلة من رسامي الجيل الأول والثاني من تشكيليي المغرب، حيث كان قريبي (الحاج مكوار) يوفر قماش الرسم ويصنع إطارات لوحاتهم، في محل كان من المحلات القليلة جدا والتي تؤمن هذه الخدمة في الرباط. وتوزع وقتي آنذاك بين المدرسة وصنع الإطارات”. ويضيف الفنان محمد الإدريسي المنصوري متحدثا عن مساره وتكوينه الفني: “تعلمت أسرار الصباغة على يد كبار الفنانين المغاربة والأجانب، وتمرست بما يكفي على الصباغة الزيتية. وكان لقائي مع فرنسوا دوفاليير François Develière، نقطة تحول في مساري الفني. لقد توجه النقاش مع هذا الأنثربولوجي الفرنسي المطلع على التراث السوسيولوجي والانثربولوجي المغربي والعربي والإسلامي (وهو الذي ولد بمكناس وأحب المغرب، وفضل الإقامة به لعدة سنوات على أي مكان آخر) حول أسئلة من قبيل: إذا كان هذا البلد يعتبر في أعين من صنعوا تاريخه الجميل من كبار الرسامين العالميين جنة طبيعية للضوء واللون، فكيف لصوت من أصواته أن يضيف إلى هذه الهبة الطبيعية حفرا في الذاكرة البصرية المغربية العربية الإسلامية، ما يكون سندا لوحدة لغة الفن التشكيلي، وصيدا يظفر به التشكيل لفائدة هذه الوحدة، فاختارت الصباغة محاورة التصوف من خلال أهم أقطابه، ابن عربي، جلال الدين الرومي وفرنسوا داسيز، وهو تراث مرتبط بذاكرة بصرية قوامها فن المنمنمات والكاليغرافيا العربية الإسلامية والحفريات والرسوم الفرنسسكانية… ومرتبط أيضا بسياق حوار يجمع المختلف في لغة واحدة”.
لا يمكن الحديث عن المنجَز الإبداعي للفنان محمد الإدريسي المنصوري دون الوقوف عند أنشطته الموازية التي تمنحه صفة الفاعل الجمعوي والمُنظِّم L’organisateur،عبر انتمائه لمكاتب عدة جمعيات ومنظمات: رئيس النقابة المغربية للفنانين المحترفين (الرباط)، نائب رئيس المكتب الوطني للائتلاف المغربي للملكية الفكرية (الرباط)، رئيس جمعية الفكر التشكيلي (الرباط). هذه الأخيرة شكَّلت أنشطتها أهم اللقاءات الثقافية الخاصة بالفنون التشكيلية بالعاصمة على امتداد السنوات الأخيرة، من خلال تنظيم منتديات الفكر التشكيلي بتنسيق مع وزارة الثقافة بالقاعة الوطنية باب الرواح والتي وصلت إلى دورتها 21، ونشر الكتب المعنية بالمسائل الفنية والتي بلغ عددها 21 إصدارا,
بناء على ما سبق، بقدر ما يتوغل حسه الغنائي Lyrique في ثنايا ألوانه الرفرافة، بقدر ما تحركه نباهة العقل في جعل العمل الفني داخل المحك الفكري، ما يدفعنا لنعت محمد المنصوري الإدريسي بالفنان العضوي الذي لا يطاوع رغبة الانزواء في المحترف، بل يبحث أيضا في إيجاد سبل التنوير، والدفع بالممارسة الفنية نحو التنظيم والتأطير الذي يتجاوز إثبات وجهها المشهدي، في اتجاه وضعها داخل المحك الثقافي بقضاياه وأسئلته وإخفاقاته وآفاقه.
شغف الألوان
إدريس كثير
باحث في الجماليات
محمد المنصوري الإدريسي فنان شغوف بالألوان . كل لوحاته أقراص و أقنام من قبس قوس قزح . قزحية الألوان الطبيعية و ما فوق الطبيعية . امتزاجها و تمازجها هما اللوحة المضمخة ، الحبلى برحيق الألوان وما بعد الألوان في هيئة كائنات هلامية لونية ، لوينات ما فوق الحمراء و ما فوق البنفسجية . ألوان طي ألوان ….
” هابل ” بمفرده قادر على إخبارنا بوجودها هناك فيما بين البرزخ و الفرسخ .
تسامي هذه الألوان لا يمكن توطينه إلا بموطن الشغف و حب موطن اللون المقتطف من عليائه .
الإبداعية الفنية للفنان محمد الإدريسي المنصوري هي قدرته على استباق تقانة هابل السماوية و استحضارها لا بمحاكاتها و لا مضاهاتها إنما بمواربتها و مخاتلتها .
هناك في الأفق ألوان زاهية ، ألوان تتزاوج و تتكوثر و لا يمكن أن يتم تزاوجها دون إيروسية هلامية في شكل هودج إهليلجي أو هلالي و في هيئة هزبر همام أو هرم هائل أو نور هائم بهوس هائج تارة و هامد هادئ تارة أخرى ، لا تدركه إلا هيرمونيطيقا خاصة بقوة الهاءات لا الآهات بدءا من هابل المسبار إلى هالة الكوصموص إلى هاجس النفس . كل هذه الأشكال لونها هو ذاتها هو جوهرها .
إن اختيار هوية اللون و ما إليه و هلامية الجسد و ما عليه و توازن الأشكال و تجسير تفاعلاتها هو اختبار لروحانية بهيجة تثمل بسماق اللون و تنتشي بزلالة الماء .
روحانية فنية تتوسل للعماء ( الكاووص )عينا و تغوص فيها بدون يقينيات و لا دوغما . تنهل الأجوبة الممكنة لما تم ترتيبه فيما سميناه الكوصموص . ذهابا وإيابا باستمرار و في كل أوبة هناك لوحة عبارة عن جواب عن حلم عما ظن خيرا و كأن الفنان يغمس أصبعيه قبل ريشته في ضباب العالم هناك و يقطف هذا اللون أو ذاك من بهاء السماء وغياهب الفناء و يحاول جاهدا تشخيصه لنا أمامنا و من أجلنا .
مرسمه مليء بهذه القطع اللونية الفنية المسافرة عبر الزمن و الذاكرة .
غالب المنصوري.
فنان تشكيلي عراقي
من رواد الفن المعاصر.
إن إبداعات الفنان التشكيلي المغربي محمد المنصوري الإدريسي وروائعه وأسلوبه المتميز والمتفرد تتميز بتكوينات عائمة في بحر من الألوان يقود سيمفونيتها براعة يد وعقل يعي كيفية معالجة هذا الزخم الإنشائي بنجاح حتى يحقق إبهارا للمتلقي بدون الوقوع في الرتابة والملل ..البريق الزاهي يشي برغبة مبدعها بتحقيق تماهيا مع الفولكلور الشعبي مثل الزجاج الملون الذي تشتهر به شبابيك وأبواب الأبنية المغاربية عندما تتعرض لأشعة النور وقناديلها المدلاة بثرياتها المتوهجة عبر كريستال ساحر وكذا المنسوجات التقليدية أيضا التي تقرب رؤية الفنان ببيئته الشرقية والامتاح من ملح ذائقة قوامها التقشف في الأشكال مع البذخ اللوني المبهج …فحياة الشرقي وفنونه هي رقصة لدرويش ينتشي من لوعة زهده ونبذه لموائد الدنيا وزخرفها بالاستعاضة ! .وما المبدع إلا إنسان قد تعامل مع المحيط بحساسية وأمانة فهو يؤرخ ويؤرشف لفلسفة امة مستخلصا قيمها و ميثيولوجيتها عبر أثره المبدع بصبر وأناة …الفنان محمد المنصوري ملتحم بتاريخه ومرتبط بجذوره بالتأكيد لذا لا مجال لنا إلا ان نصدق نبوءته ونبارك أحلامه الكبيرة لأنه فنان حقيقي كبير.