تواصلت فعاليات اليوم الثاني من ندوة “نحو فكر عربي جديد” التي نظّمتها مؤسّسة الفكر العربي في الرباط، تحضيراً لمؤتمرها السنوي “فكر17″، وعُقدت ثلاث جلساتٍ متتالية، تناولت الأولى موضوع “الفكر العربي والإشكاليّات الثقافية الراهنة”، أدارها وزير المالية المغربي السابق معالي الدكتور فتح اللّه والعلو، الذي شدّد على وحدة الطموحات والهموم العربية المشتركة.
واستعرض الكاتب والباحث الموريتاني الدكتور عبد اللّه ولد اباه ثلاثة نماذج مرّ بها الفكر العربي المعاصر: الأوّل هو “التقدم” أو ما سمّي بأدبيّات النهضة بـ”التمدّن”، ويعني الإصلاح الديني والسياسي من جهة، والدخول في التطوّر الكوني من جهة ثانية. النموذج الثاني هو ” الثورة” الذي برز في أربعينيات القرن الماضي ويعني التغيير المجتمعي الجذري. فيما اهتمّ النموذج الثالث بمسألة “التراث” فكان لا بدّ من مقاربة تأويلية له في إطار عمليّة الإصلاح والتغيير.
وأكّد الأكاديمي المغربي الدكتور محمد نور الدين أفاية على وجود صعوبات كبيرة تعترض النخب الثقافية والسياسية في كيفية تخيّل المستقبل، داعياً إلى اندماج الثقافة العصرية في أيّ مشروع تنموي، ورأى أنّ ما شهده العالم العربي من تغيّرات وتحوّلات سياسية وفكرية دفع بالعديد من المثقّفين إلى مراجعة الكثير من المفاهيم، لأنّ أيّ حديث عن الثقافة ينبغي أن يشمل إعادة الاعتبار إلى قيم الحرية والكرامة والاعتراف.
واقترح وزير التعليم الجزائري السابق معالي الدكتور علي بن محمّد عنوان “الفكر العربي المتجدّد” بدلاً من “الفكر العربي الجديد”، معتبراً أنّ أفضل ما في تراثنا هو الذي أنتجته المراحل التاريخية المميّزة بالحوار الفكري السلمي وقبول الآخر، وأسوأ ما في تاريخنا الفكري والحضاري هو فترات الانغلاق والتكفير والاستقواء بالسلطة.
بعد ذلك انطلقت الجلسة الثانية تحت عنوان “الفكر العربي وآفاق المستقبل”، أدارها وزير الصحة المغربي السابق معالي الدكتور محمد الشيخ بيد اللّه، وقدّم خلالها المفكّر المغربي الدكتور عبد السلام بنعبد العالي مداخلة تحت عنوان “من أجل بناء ذاكرة المستقبل”، أكّد فيها أنّ “الحضارة” ليست حضوراً للماضي وليست إحياء وامتلاء واتّصالاً، وإنّما هي غياب وابتعاد وانفصال أيضاً، داعياً إلى الانطلاق من القطيعة المعاصرة الكبرى، وجعل التحوّل الذي نعيشه مركزاً ينتظم تاريخنا الفكري حوله، وبذلك ىسنتكلم عن ماضينا انطلاقاً من لغة الحاضر وتطلّعات المستقبل.
وقدّم الباحث والأكاديمي الجزائري الدكتور محمد شوقي الزين ورقة حول “الإبداع أفقاً من آفاق المستقبل العربي”، أكّد فيها أنّ قيمة الإبداع تتجلّى في القدرة الذكية على حسن استعمال العناصر الموجودة سلفاً، وإعادة تركيبها وفق منهج جديد. وتناول الإبداع الفلسفي، والإبداع الترجمي، ودور الأخير في تجديد اللغة التي نتكلّم بها.
الجلسة الثالثة والأخيرة تمحورت حول عنوان “العرب في الفكر والواقع اليوم: رؤية مغاربية للتجديد”، أدارها الأكاديمي المغربي الدكتور إدريس لكريني، وشارك فيها المفكّر الجزائري الدكتور العروس الزبير، فسأل هل نقصد فكر العالم العربي أو الفكر العربي؟ هل نتكلّم عن فكر الوحدة أو فكر التفرقة؟ ودعا إلى رصد القضايا الأساسية المطروحة كالقضية الفلسطينية، داعياً إلى اعتماد علم الاجتماع لفهم الواقع الذي نعيشه.
وقدّم وزير التربية المغربي السابق معالي الدكتور عبد الله ساعف جملة من النقاط التي يقوم عليها الفكر العربي الجديد، بدءاً من تعزيز الهويّة العربية الإسلامية المنفتحة، وإرساء رؤية جديدة للواقع العربي، وعدم التدخل في شؤون الشعوب واحترام إرادتها الحرّة، داعياً إلى إطلاق ميثاق أخلاقي جديد يركّز على حماية الإنسان العربي والحفاظ على حقوقه.
ودعا وزير التربية التونسي السابق معالي الدكتور عبد اللطيف عبيد إلى تحقيق التكامل العربي في مختلف المجالات، مشدّداً على ضرورة قيام وحدة عربية بعد أن أصبحت غائبة في السنوات القليلة الماضية.
وختم المدير العامّ لمؤسّسة الفكر العربي البروفسور هنري العَويط بكلمة أكّد فيها على ما اتّسمت به الندوة من مميّزات تتلخّص في غنى برنامجها، ومستوى المداخلات الفكري الرفيع، ومراعاة التمثيل الجغرافي من خلال اختيار متحدّثين ينتمون إلى دول المغرب العربي، والإجماع على أهمّية الفكر ودوره في عمليات التنوير والتطوير والتنمية، والتشديد على ضرورة تجديد الفكر العربي وتحديثه، فضلاً عن المشاركة الواسعة والرصينة فيها، وأخيراً ضرورة تجسيد هذا المشروع الجماعي الشامل في مختلف الميادين والقطاعات، وهذا ما سيسعى إلى الإضاءة عليه مؤتمر “فكر17” في مطلع شهر ديسمبر المقبل.
وكان اليوم الأوّل قد شهد انعقاد جلستين عصراً، حملت الأولى عنوان “الفكر العربي وتحوّلات الفكر في العالم”، قدّم لها الأكاديمي التونسي الدكتورعزّالدينعناية، الذي أبدى أسفه لأنّ العرب لا يستثمرون بما فيه الكفاية في اللّغة العربية كلغةٍ للتواصل حول العالم، ورأى أنّه ثمّة انهزام نفسي يعيشه المواطن العربي من ناحية اللّغة العربية، مشيراً من جهة ثانية إلى أنّنا لازلنا نعيش على الفلسفة الكلاسكية، ونردّد ما قيل في الإنتاجات التاريخية.
ورأى المفكّر المغربي الدكتور محمد المعزوز أنّ الاستبداد السياسي هو أصل المشكلات في الوطن العربي، لافتاً إلى التنافس الكبير بين عقلين: العقل الإلكتروني المتمثّل بالذكاء الاصطناعي، والعقل البشري الذي ظلّ محدوداً يعيش على أنساقٍ فكرية قديمة.
من جهته تحدّث رئيس مركز الأبحاث والدراسات العليا في بروكسل الدكتور بدي ابنو المرابطي، عن فجوةٍ حقيقية بين الفكر العربي “السكوني” والفكر الدينامي والمتحوّل في العالم، مقترحاً دراسة هذه الفجوة، ومعتبراً أنّ أيّ فكر يكون خارج الفكر المتحوّل يُنظر إليه باعتباره هامشاً للفكر في العالم.
وانطلق مدير مركز “مدى” للدراسات الإنسانية الدكتور المختار بن عيد اللاوي، من رؤية فلسفية ركّز فيها على فكرة الحرّية التي يجب أن تتطوّر في المجتمع لتتحوّل إلى عُرفٍ يتقبّله الجميع، معتبراً أنّ أهمّ التحدّيات التي تواجه الفكر العربي هي الهيمنة المسيطرة للإيديولوجيا والخطابات الشعبوية.
وتناولت الجلسة الأخيرة “الفكر العربي وأسئلة التحديث والتنمية”، قدّم لها رئيس وزراء موريتانيا السابق الدكتور يحي ولد أحمد الوقف، وتناول فيها العلاقة التفاعلية ما بين التحديث والتنمية، معتبراً أنّ الواقع العربي هو المسؤول الأوّل عن تدنّي معدّلات التنمية وتفاقم الأوضاع في بلادنا.
ثم تحدّث أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة الدكتور فتحي التريكي عن النموذج التونسي الذي يعدّ نموذجاً استثائياً في الحراك العربي، لأنّ تاريخ التفكير التونسي كان تفكيراً دستورياً، بمعنى أنّ النضال ضدّ الاستعمار كان دستورياً، وأيّ حراك نحو التغيير قام على الدستور، داعياً إلى إعادة تحديث الحرية في مستواها الخارجي، تلك التي تربطنا بالآخر داخل المجموعة البشرية من حيث هي احترام للقوانين، واحترام للفرد في نمط حياته وتعبيراته.
وأشارت مديرة المعهد العالي العربي للترجمة الدكتورة إنعام بيّوض، إلى أنّ القطيعة المعرفية التي حصلت منذ مطلع القرن التاسع عشر لم تتمكّن من تقويض أركان الماضي، ولم تستطع مواكبة الحداثة، فضلاً عن أنها لم تسفر عن وضع رؤية جديدة لمشروع مجتمع يقوم على تحديث التراث. وأكّدت على الحاجة إلى مراجعة نقدية للذات تُسهم في تأسيس منهج جديد للتراث المدوّن واستقرائه بما يتناسب مع العصر.
من ناحيته انطلق الأمين العامّ للمنتدى المغربي العربي الدكتور عبد الإله بلقزيز في مداخلته من فرضية تقول إنّ الحين قد حان لكي نوجّه نقداً جذرياً لمقولة التحديث، وأنّه علينا أنّ نوجّه هذا النقد من داخل التحديث وليس من خارجه، محذّراً من أنّه آن الأوان لنقد مجموعة من المقولات التي حوّلناها إلى يقينيّات ترسّخت في النفوس وعلينا أن نفكّكها.