لقد حاولنا تقديم تصور حول منزلة القراءة، مع التدليل أيضا على استقلاليتها داخل الخطاب النقدي، وما حفزنا على ذلك هو انتقال من التصور القرائي البسيط إلى التصور العملي الأعمق، نتيجة انفتاحها على المستحدثات المعرفية والمنهجية وإقرارها بوجود محفل وسيط الذي هو (النص) يلعب دورا جوهريا بين البنية العميقة والبنية السطحية (الظهور، أي إخراج القراءة من مرحلة الكمون إلى مرحلة الفعل، لأن المنزلة التي يستعملها الناقد أصبحت تحضى بها الممارسة النقدية، لأنه حاول استجلاء التأثيرات التي مورست ولازالت تمارس على المتلفظ (النص) في المصادر الغربية والعربية، حيث أدت بنا إلى تبيان كيف تتناسل القراءات ويشتغل النقد في مستوياته النصية، والخارج النصية، مع تحديد نوعية الميثاق الاستياقي Contrat fialuciaire، وبيان الآثار النقدي الذي يكشف عن هويته وموقعه من القراءات.
فبالتوغل في باطن النص، نجد تناقضا بين ظاهر النص حسب رؤية النقاد. حيث يتظاهرون بعدم جدية هذا الفعل ← وهناك من يؤكد على أهمية هذا الفعل وهذا ما نراه من خلال هذا المربع:
رماد A B اليقين
اللايقين (B’) (A’) اللارماد
إذن نحن بصدد قراءة هذا الديوان من أجل تطويع هذه الرؤية النقدية من خلال البعد التفاعلي، والحواري.
1- يتكون هذا النص من علاقة تشاكلات ثنائية التي تمفصل النصوص
1) تشاكل الشرح داخل الديوان باعتباره أيقونة جديدة
2) إن هذا الديوان هو رأسمال رمزي لكونه يعتبر نموذجا للسلوك القويم من حيث القول والفعل
إذن نستلزم البعد العرفي لبرمجة مشروع الذات من أجل تحقيق المبتغى كسيميائية الأهواء / لتقلص المسافة في العالم، بوصفه حالة للأشياء يسبح في حالة الذات، المندمجة من جديد في الفضاء الداخلي، والمفرد للذات الشاعرة، إن إبراز الكفاية الذاتية التلفظية تنطلق من عملية الافتراض (تشييد الذات) إلى مرحلة التحقيق (اضطلاع المتكلم بإنتاج الموضوع مرورا بمرحلة التحيين لأن (تأهيل الذات لا تحقق هذه الكفاية الخطابية إلا إذا راعى المتلفظ ردود فعل المتلفظ له (الرسالة المسترجعة والممارسات التلفظية والصنافات الإيحائية Proxis en eciative.
Taxinonies comotavies والذات الكامنة (الشعور)
والذات المفترضة (الشك)
والذات المحينة (الرؤية الذاتية)
والذات المحققة (القلق)
والذات الحالة (الغيور) ذات عارفة مطوعة وموضوع قيمي
إنها الذات المتوهلة للتعبير عن مشاعرها ومقاصدها، واستخدام قدراتها التطوعية، ومناورتها التلفظية ووجود تيمات (كالريح، الذات والمكان، والحلم، والأرض، النجوم الحمام – الفجر – البحر).
إن هذه الدوائر المختلفة من الدلالات أغربها دائرة المؤثثة في دائرة الديوان التي تشير إلى وجود أزمة داخلية واضطراب باطني عميق ← فالمنظور التأويلي الذي يدعو إليه الشاعر يستدعي التحليل الأسطوري في علاقة النص بكل ما يحيط به من ظواهر مقدسة كنزول المطر في حركته المتدفقة القوية / أو في انسيابه الهادئ، أو علاقته بالنار إذا جاش فيه حمية غلي مرجل، فالنص يتجاوب مع كل هذه التيمات الموجودة في الديوان.
كجوهر ← وكموضوع أساس في التأويلات والتلغيات ï لأن القراءة تختلف حسب المواقع فهناك التي لم تستطع انتقاد أعماقها ولا الوصول إلى ما تنطوي عليها من قوة وصمود وقهر وثبات، وهناك من قراءات التي كشفت عن جلد الذات ومعاناتها، ومكابدتها فمن المعاناة تفهم البحر الطويل في هذا الوجود، لكن المعاناة لا تكون / بالسير، أو قلة الماء بل معاناتها ترتبط برؤيتها للمجتمع وفي ارتباطها بالأفراد المجتمعين لأن اعتماد أغلب القراءات بالوصف الخارجي / والداخلي بعيدا عن الفهم الباطني الذي يكشف عن خلفيات هذه الأوصاف وتمضي في سيرها وفي حركتها، تلك بما يوحي الجدل والخصومة والصراع، نظرا لاتجاه الأراضي التي تمشي عليها واتجاه الأفراد الذين يحومون حولها.
فالذات الناطقة فوق الأرض هو نتيجة الضغوط جراء سيرها غير مرغوب فيها أو الذهاب إلى أماكن محفوفة بالمخاطر ومرافعة تدافع الحصى عن الأرض.
لأن سير الشاعر مع نفسه جعله يحرض الحرب ضد الوجود والزمان، والثبات، والنهائي، يريد أن يغاير المكان / ليكون حركة ومبدأ عظيم فهو فوق كل شيء وأكثر من أي شيء، وأنه حلم يجثم على وجدان الشاعر (أي الحلم) بالقوة والعظمة والسيادة المطلقة فهو مبدأ الثبات والقوة، تعتريه عناصر المحبوبة المعبر عنها بالبحر والمكان، والنجوم، فالشاعر في المنظور النقدي عبارة عن صورة متعددة الأبعاد ← لا يكاد القارئ المؤول يقف على إحداها التي تتراى له الصورة الثانية حيث يدعونا كفكرة لا كموضوع، والذي دفعه هو جزء من التفكير المنهي التأولي لبناء الفكرة والتوالد والترابط، وفكرة الصمود في حمل أثقالها، لأن الليل يكشف عن مشكلات أعباء الحياة.
فالقصائد هي تعويذة الحياة وأنشودة الوطن، الحاضر والغائب الذي قوم الشعر بالثقاف، وبناه بطول المعاناة، وأعاد تأريخ لهذه الذات المجروحة، كهوس وكطقس لا يبعد المتناهي، بل عمل على تحطيم كل الأقانيم ليؤسس لهذه المملكة الشعرية “أورغانونا”، لتكن فيه الكتابة هي مجال ممارسة حرة، تتجاوز اللغة التي تقمع كل سلطة وكل أسلوب مهيمن، فعلاقة الكتابة باللغة، والأسلوب هي علاقة جدلية والذكريات المشتركة تجعلنا نتلمسها بلغة رمزية مشتركة تجمع بين كل الناس، وتظهر هذه اللغة في الأحلام وهذا ما يسميها كارل يونج بالأنماط الأولية”. وعندما طرح الإنسان ما قبل الولادة وما بعد الموت، وعندما تخلى عن استسلامه طرح أسئلة وجودية ولدت الأسطورة، وهي تعبير عن اللاشعور الجمعي، لأن هذه الأنماط الأولية ما هي إلا عبارة عن تصورات نمارسها في حياتنا اليومية وهي الأعمال الدفينة كما تتجسد في الديوان كعنصر أنثوي التي هي صورة (المرأة) يدفعها إلى (العنصر الذكوري) لأن الأنيموس يعمل في الاندماج في النصف الآخر.
وهذا ما ذكر في الإلياذة التي تحمل لنا صورة الصراع عن المرأة (هيلين في الملحمة) فالانبساط تتجه فيه الطاقة المحركة لإشباع الرغبة أما الانطواء يصبو في حياته إلى القوة والطموح والشهرة، لأن الديوان أظهر لنا كل الأنماط الشخصية كوظائف نفسية والتفكير، والوجدان، والإحساس والحدس وهذا ما نجده في القصائد التالية كالغياب ص 9، والحلم ص 17 وهل أنا الريح، أيها المداد ص 19 وورشات مرتبكة ضد الموت ص 37، ورماد اليقين ص 72. فهذه القصائد تقدم لنا رؤى من خلال اللحظة التي يأخذ فيها الكون معنى بواسطة الخلق هو الإبداع من أجل تأسيس لهذه الذات والعالم، والإنسان، فالشاعر ضائع، وتائه في وحذته العميقة والرهيبة كأنه بودلير ونرفال، ورامبو.
فالديوان إذن إنتاجية أدبية مؤطرة بإنتاجات ثقافية، واجتماعية فهو فضاء تشكيلي، ودلالي، ولعبة مؤدلجة ومؤلفة من المعنى والمبنى إنه مركب يشتمل على أجزاء تمثل دلالة تفصيلية على قدرة الإنسان وكفايته الإبداعية ضمن تاريخ الأجناس، وتاريخ الأنواع، والأغراض، حيث تؤطره مجموعة من استراتيجيات التواصل، ومقصديات إبلاغية تربطنا بنشأة الكون، والأحلام، ومن عمق الوجود الشاعري يتجلى العيش الممكن، والوعي المتعالي، ويحتل الشاعر الأعماق في الكتابة الإبداعية، وهذه الأخيرة هي موضوع الشعرية كما يقول شارل مورو في كتابه “التيمات”، ويقول عبد الله الصايغ أيضا كتابه “الخطاب الإبداعي الجاهلي والصورة الفنية، العقلانية وتحليل النص) ص 209 “فالشعراء الجاهليون يستنفرون عاطفيا وغريزيا بمشهد المطر، فمعظم العلاقات العاطفية تتشكل مع المطر، ومعظم لقاءات الوصل تتزامن مع المطر، فإذا ذكر ذكرت الحبيبة ص 48 – 49 – و10 – 41 وهذا ما نراه في العلاقة التي تربط الشاعر من خلال هذه الخطاطة:
العاطفة المطر الوصل ← لا يكون إلا بتزامن مع وصول الماء إلى الأرض
↓ ↓
التعبير المطر
↓
فالنزول يقترن بحضور الوصال بقدر ما يكون الماء رقيقا وانسيابيا بقدر ما يكون عنيفا ومدمرا ص 42.
فالمطر ← فعل انهار على النفس ومرتبط بالواقع الذي يعيشه الإنسان، ويكون المطر وابلا ودمارا يمحو أثار الحبيبة وتقضي على التذكر، مما يدفعه إلى التعبير عن الحرمان والبكاء ص 17 – 18، وقد تكون الطبيعة تستجيب له ليكون العشب ص 42 – 43، مما يفجر الوصال والحنان بينهما.
هل يكون المطر ï شرا أم خيرا
ما علاقة الشعر ← بالإنسان
ما علاقة الشعر ← بالحيوان
وما علاقة المطر والإبداع ← بالظأ والعطشى وبالحب والارتواء
هناك نصوص أخرى التي تصور المطر كأنه حرب تدمر في الديوان لأن الإبداع حرب (وهذا ما نجده في معلقة امرؤ القيس الذي وافق بين المطر والحرب، لذا اقترن الفرس بالكر والفر والقتل وسرعة، فالإبداع هو انتهاء الأثر، وانغماس في المستقبل لجعله عملية تظهر من تطهر النفس من الأنام واغتسال الجسد من براثين القداسة كما يرى نيتشه، فهو كالحرب تقتلع الأعداء من جذورهم، كالمطر يقتلع الأشجار من جذورها. فالديوان رماد اليقين يطرح الدمار كما الحرب والتي ترتبط عند امرؤ القيس بفكرة الراهب، والمبدع بفكرة الشجرة الثانية، لأن قصائد الديوان مرتبطة بالخوف والفزع، والإنسان وبكل القوى الغيبية حيث اللاوعي الجماعي والحرب هي انتقاء من هذه الشرور كما في ص 62 – 63 فالذات لها ارتباط بالمكان – الفضاء وبالزمان، وبالوجود
فإقرار الشاعر بأسطورة الطلل والحياة والموت، هي تجاوز للفرد النفسي – ومنحها البعد الجماعي التي هي اللاشعور الجمعي
فالذات هو تفجير لمخزونه الداخلي (النفسي العاطفي – الشعوري – القلق – الحزن ï إذ ò
نحن أمام طقوس جماعي لا فردي
فدور الشاعر ï هو إظهار دلالة الجماعة وارتباطها الفضاء / المكان الزمان
عندما يبدع محمد بلمو فهو يفجر عقله الباطني الذي لا يراقب (زمنا ولا مكانا) لأن الإبداع عنده مرتبط بالولادة والمخاط مثل الأم، فالقصد هو الولود الذي يبحث عن أصله ووطنه، وله ارتباطات بالوشم، وبالكتابة وبالبحر، وركوب السفر والطير. فالإبداع هو شكل ينبوع في شكل أحلام المجتمع / ومخاوفه، وأماله.
فتحديد خصوصية الشعر عند بلمو في هذا الديوان يجعلنا نستشف أنه أضيف عليه طابع الخصوبة، والبداوة، حيث يتميز بالعمق، والخصوصية الاجتماعية والحضارية، لأن في هذا الديوان “رماد اليقين” يعيد لنا تعدد الأغراض، والذكريات والحنين، والشوق، والفردانية والجماعية، فهي تجربة تكرارية في شكل طقوس إيحائية واحتفالية ساخرة كمعادل موضوعي، ومادي، فهذا التقارب بين المجتمع الذي يتعايش معه الشاعر، ويعيشه، والبعد الممكن، يشكل رمزا أنتروبولجيا وهو نوغرافيا يعتمد التقارير الوصفية، كسيرورة تاريخية لمعرفة ما يستنبطه الشاعر لهذا المجتمع باعتباره حقيقة ليست جافة، بل تتسم بالشعور وبالفاعلية الرمزية.
فالشاعر بلمو في هذا الديوان كما ذكرنا، يكشف عن إنسانية الإنسان يحيا الموت / والحياة، وينشد الخلاص من هذا الزمن الرتيب، وهذه الظلال التي تطارده، فاستحضار التيمات التي ذكرناها هي بمثابة مقدس وانسجام للدورة الطبيعية،لأن فحضور الذات كقناع جعلته يبحث عن هذا الممكن الغارق في وحل القناعة، والثبات، زارعا في الريح والنجوم صلاة، وصدمة وقوة لكي تعود خصبة، لها ذرية وجمال، كما في (الحلم ص 17)، لأن الحديث عن اللاشعور النصي هو الحديث عن (القول، والوصف، والتغيير والتخييل، والمجاز، والمجال) واستحضار أيضا (الفحل، والسماء، والثبات والريح، والحياة، والموت) كلها دلالات وأبعاد رمزية وأوصاف ذاتية، وشاعرية جعلتنا نستشف أن خصائص هذه القيم والعادات التي يؤمن بها الشاعر بلمو، جعلته كمرسل وكالصرم، والحب، والحرب، والجهاد، والطموح والحياة، فخوض التجارب مع لغة الخيال، صار المعلم الضليع الذي يستقي منه المجتمع لأنه يختزل مقوماته في روح الجماعة، (كما يقول إيريك فروم في كتابه اللغة المنسية ص 25. كل هذا الحضور دفعنا لمعرفة الرؤيا التي هي سفر من الوعي إلى اللاشعور الجمعي وليس المرضي بالمفهوم الفرويدي وكما يرى جان بلامان نويل في كتابه (التحليل النفسي للأدب ص 63).
فالديوان يحمل في ثناياه اللاوعي الإبداعي، لأن بلمو يعيش البيئة التي أقصيت، ولا تملك لا لغة، ولا ذاكرة، ولا تاريخ، من هذه البطاقة الإبداعية أصبحت تأريخ لمن لا تاريخ له، وتأسيس لكل ما محي، أو ألغي، فهو الحارس لذاكرته، ولأحلامه، ولاستهاماته (نفس الكتاب نويل ص 44).
إن الديوان كما ذكرنا يمتلك لا وعيه بعيدا عن وعي المبدع، ونتمنى أن تتيح لنا فرصة أخرى لقراءته قراءة حفرية فوكاوية، لأنه يؤرخ للذات، والوجود، والزمن، واللغة. وأن تنمو شتائل المعنى في ربوع البياض. وعبر هذا البياض ينمو الفكر ويربط بين الذات والمرجع، فالشاعر بلمو عبر عن رغبته في تحدي مجتمعه والثورة على قيمه، وهذا التعبير هو لون تناقضي بين الشعور بالرغبة والانفراد، وبين ما يجود على مجتمعه من مخاطر، لأنه يخضع للشر الذي يهدد هذا المجتمع، لأنه أصبح عقيما أمام الوحشية الانفرادية والهيمنة الإيديولوجية، فهو المعرفة التي تسمح لنا بالاختفاء وراء هذا الغبن الذي يسيج القصائد بالعمي، وبالصم.
فالديوان هو رسالة مستعجلة إلى القراء لأخذ وصفة التأويل لمعرفة الطبقات الترسيمة التي لم يصل إليها التغيير، ولبناء نسق شعري قاري عربي وبربري قادر على الاختلاف وليس الائتلاف البعدي والثقافي، لأن الأسس التي تنطلق منها أي ظاهرة إبلاغية / فنية مرتبطة بالوجود ومن ثم فإن الأسس الثقافية والفنية التي صنعت وعي الكاتب بذاته ومحيطه، هي التي يمكن أن تنظر من خلالها في المكونات الأساسية ويرى بير بوردي “فإنه ينبغي النظر إلى العلاقة التي يقيمها المبدع مع عمله باعتبارها علاقة تتأثر بنسق العلاقات الاجتماعية التي يتم فيها الإبداع كفعل للتواصل، أو بتعبير آخر تتأثر بوضعية المبدع في بنية الحقل الثقافي ومن جهة هناك الصورة التي يضفيها المجتمع على الكاتب والشاعر، وهي صورة لا يمكن أن يتغافل عنها أو يرفضها، لأن المجتمع بكل مراحله يرسم صورة معينة للكاتب والمبدع ويتدخل بصورة في صلب مشروعه الثقافي والفكري، فالشاعر ملزم بمراعاة متطلبات مجتمعه، ويرى ميشل بوتور في كتابه “بحوث في الرواية الجديدة ص 85 يستحيل علينا أن نصف تطور شخص ما دون أن نصف في الوقت نفسه كل فئة من المجتمع، ويرى أيضا الخطيب في الكتابة والتجربة “إن السيرة الذاتية كانت في الحقيقة نقدا اجتماعيا” ص 120، فهذا الاستطراد الفولكلوري – أو الإثنوغرافي هو ما يوجد في الديوان كله.
لأن الشكل الجديد ثمرة جهود متواصلة يحيل على الثراء الذي هو الجيل الذي عانق النكبة بكل ظروفها السياسية والاجتماعية، والسياسية والنفسية، كما أن الأسس التي يقوم عليها يشكل القصيدة الحديثة، التي بدأت تكتمل وتستقر عند بعض الشعراء المحدثين الكبار كالسياب، وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وغيرهم، وتجدر الإشارة أن المضامين الجديدة المتطورة هي وحدها القادرة على تحقيق قيمة الوسائل الفنية الجديدة وعلى تبرير وجودها، والملاحظ أن هذه الحقيقة لا تقلل من الأهمية، وتحدد فعاليته في عملية الإبداع الشعري التي لا يعتبر فيها الشكل قشرة خارجية بل يعتبر نسقا لتبقى المادة الشعرية بدونه خليطا وفوضى، وفي هذا السياق تبرز أهمية دراسة تجربة الغربة والضياع في الشعر الحديث فما هي أسباب بروز معاني الغربة والضياع والحكاية في الشعر الحديث وخاصة عند محمد بلمو، فهناك عدة عوامل أبرزها تجربة الغربة والضياع
لأن محمد بلمو في قراءته للعديد من القراءات، والمناهج، والقصائد جعلته يلون تجربته بجانب التجارب العربية الحديثة والمعاصرة
1) والتأثر بالشعراء الغربيين كأليوت صاحب قصيدة “الأرض ….. الحراب.
2) التأثر بأعمال الروائيين والمسرحيين الوجوديين كألبير كامو، وسارتر، وأداموف، وسالاكرو وبعض النقاد، ككولن ولسون، حيث ترجمت أعمالهم إلى العربية، وانتشر العلم، والفكر في أوساط عالم الشباب فأثار نوع من القلق، والسأم والضجر التي لم تكن تناسب ما في أنفسهم من سأم وحسرة فبلمو في قصائده زرع الوعي والفكر المغاير،
3) وكعامل المعرفة التي هي سلاح فحولته لطرح أسئلة على نفسه، ومجتمعه واتخاذ مواقف من ذاته، وخارج الذات والكون والمجتمع.
غير أن المجاطي يرفض أن تكون هي المصدر الوحيد التي أفاضت العبارة “التمزق” والضياع، بل نجد في التجربة العربية التي حولته النكبة إلى وخرائب، فالنكبة هي أهم عامل في الاتجاه بالتجربة الشعرية الحديثة نحو أفاق الضياع والغربة كما يذكر بلمو في قصائده.
وأن هذه النقمة المأساوية هي التي ولدت في التربة العربية ولم يستوعبها الشعراء، بقدر ما أصبحت علة عليه أن يحمل لعنة الواقع والوجود، لأن بلمو احتلب من هذه التربة المأساوية، الأمر الذي يؤكد أصالة هذه التجربة وضرورة البحث عن جذورها وتصوير أهم مظاهرها التي برزت في القصائد ومن تلك المظاهر نذكر ما يلي:
الحرية في الكون – طرد الإنسان من أرضه، وتاريخه
– حاصرته المهادنة والذل
– انحل الإنسان بينه وبين العالم والحياة
– شك في كل حقيقة يقينية
– كان أكثر حساسية مقارنة مع غيره من الناس
– إحساسه بالوحدة، والتفرد في الكون
– رفعت عنه العناية وتولى أمر نفسه بنفسه
– لقد أصبح الوحيد الذي يعرف الوجود ويطالب بتغييره، لأن محمد بلمو من شعراء القلائل الذين يقاومون الثبات من أجل زرع الاختلاف، لذا يعيش في وطن لا عنوان.
الغربة في المدينة
– بنيت العديد من القصائد حول المدينة
– وجد في المدينة الوجه الحضاري وخاصة معرفة الشعرية التي سمحت لهل تحقيق هذه الرغبة والحنين إلى الأصل.
– المدينة العربية فقدت عذريتها لما غزتها الأوربية
– أصبحت المدينة لا تناسب واقع الأمة المهزوم
– صور المدينة بتحقيقها المادية
– غياب البعد الإنساني في قصائده، لأن البادية هي الحلم، والخيال، والأصل
– لأن يراها مدينة بلا قلب ولا حب تتقبلها أقدام الزمن وأنوار الإعلانات فهي لا تقسوا على الأحياء وحدهم، بل حتى على الأموات أيضا، وأن شكل عماراتها وشوارعها مبنية على الأموات – الناس صامتون عمليون همومهم على أكتافهم، يعرفون الغربة والقسوة، والمحو، وغياب الحب
الغربة في الحب
فشل الشاعر بلمو في اللاتلاؤم مع جو المدينة الحديثة ومع من فيها وحمل غربته لمواجهة الموت، وقد فشل في تحقيق سكينة نفسه عن طريق علاقته بالحب، وأن همومه أكبر لا تجدي معه جرعة الحب بمفهومه الروحي، وبمفهومه الجسدي والمرأة بجمالها / جسدها – وعذريتها لم تخلعه من هذه الأعباء، فهي أشبه المدينة المقفلة بألوانها وعشرتها تفرض على محمد بلمو الشاعر شقاءين – شقاء السفر الدائم إليها وشقاء الانتظار وقلق الأسوار بعد الانتظار، ووعي بلمو الشاعر أن الحب ليس إلا جرعة وقتية، لأنه عملية الواقع المهترئ، وأنها ليست بلسما شافيا يمكن الركون إليه في اطمئنان فالشاعر بلمو يعرض لنا براعته الفنية والجمالية التي تنم عن قوة خيالية وجمالية لتجاوز كل أعين البصيرة، ولغة الصمت ويكون الإنسان والوجود، والهوية هو الأصل لذا عاش ولازال يعاني الغربة في الكلمة، والحرية.
الغربة في الكلمة
لقد أراد أن تكون كلمته قوة وحركة فعلا الأيام حولت الكلمة إلى حجر في لسانه – إحساسه بالكلمة لن يغير الواقع الذي تركته الهزيمة (1967)
فجمد جرابه راحلا في ظلال الحقيقة بناره وبمعاناته، لكي يجد سرا في عالم لا ينتهي إلا بجرح لا ينتهي
لقد جرب الصمت بأنه عذاب وسكون وموت وأن الكلمة مستعصية متأنية، لا تخرج من حجم اصمت إلا في ثوب أسود.
– وأن المجتمع الأسود لا يفجر إلا الكلمات التي لا تملك ميزة الحركة والفعل
هكذا تبلورت الأبعاد المختلفة لتجربة الغربة لدى الشاعر بلمو – في مدلول واحد هو الغربة في الواقع الحضاري – فهدفه البحث عن الخلاص الكلي الذي سيأخذ في بعض أشعار شكل معاناة عنيفة لا للعذاب ولكن للموت نفسه من أجل الحياة وارتباط بين المعاني والضياع والغربة وبين معاني التجدد واليقضة والبحث، وهذا ما جعل بلمو يغاير الكائن والممكن، ويبني هذا الوجود لاختيار لغة غير نرجسية.
هكذا استطاع محمد بلمو أن ينبعث من الرماد وأن يحمل معه الجمر لخرق كل الحواجز بلغة شاعرية، تمد عشقها لكل الآلهة، لكي ينشر الود، والحرية، في عالم ظالم باسم حرية البشر كما يقول أدورنو وهوركرايم، فشعره ريح يعري الأقنعة والمحتجبة لكي يوجد في الوجود، وأن يرسم بريشة الخيال خرائط رمزية ضمن الخرائط التي نسجها أدونيس، وخليل حاوي، والسيات، إنه ارتشف من كأس المعاناة قبل أن يحلب من شعراء الطليعة.
إنجاز الدكتور إنجاز الدكتورة
الغزيوي بوعلي بن المداني ليلى
فاس