في تظاهرة شعرية جديدة، خرج الشعراء إلى حدائق تطوان وهم ينشدون قصائدهم يوم السبت الماضي، في حديقة مدرسة الصنائع والفنون الوطنية. وقد شارك في هذه التظاهرة الشعراء المغاربة عبد الرحيم الخصار ومحمد بلمو وبهيجة البقالي القاسمي، إلى جانب الشاعر الإماراتي طلال الجنيبي مع عروض فنية وغنائية لفرقة الشموع، برئاسة الفنان عبد الحميد لمرابط.
وتحرص هذه التظاهرة التي تنظمها دار الشعر بتطوان على مغادرة القاعات الموصدة والفضاءات المغلقة، من أجل إشاعة القول الشعري في الساحات العمومية. وقد شهدت الأمسية تقديم تجارب شعرية مختلفة إلى جانب مرافقات موسيقية وعروض فنية جديدة، في واحدة من أهم الحدائق المغربية التي تجمع بين النبوغ المغربي والعبقرية الأندلسية في العناية بالفضاءات الطبيعية والمعمارية المفتوحة. حديقة تقيم حوارا بين الأشجار والأزهار من جهة، وقطع الزليج والنقوش الخشبية والجبصية التي تؤكد شاعرية الصانع المغربي في هذه المعلمة والمؤسسة التي لا تزال تحرص على آخر مشاتل ومشاغل الفنون الوطنية العريقة.
واستهل الشاعر عبد الرحيم الخصار القراءات الشعرية بمختارات من قصائده الشعرية، كما كتبها على مدى مراحل من تجربته الشعرية الزاخرة، منذ تسعينيات القرن الماضي، ليختم القراءة بقصيدة تستحضر شاعرية الأب في ذاكرة الإنسان ووجدانه: “ربما حبك كان له مذاق الفاكهة/ لكن غيابك فجأة/ والهول والذي يليه/ كان مؤلما مثل غروب الشمس في قرية/ مثل قرية بلا أشجار/ مثل شجرة خارج الغابة… مثل عازب في الخمسين يقتله الندم/ مثل الندم: مثل الندم”.
بينما أطل الشاعر محمد بلمو على جمهور الشعر في تطوان من نوافذ شعرية مفتوحة على المطلق، عبر قصيدة واحدة جاءت في صيغة معلقة شعرية بعنوان “وحدها النوافذ”:
وَحْدَها النّوافِذُ/تشْرعُ أبْوابَها/وحدها/كي يمُرَّ الأوكسجينُ دُونَ عناءٍ/إلى أجسادٍ خائفةٍ وأرْواحٍ تُسَبِّحُ طوالَ الوقتِ/لمْ تُصدِّقِ المساجدُ أنَّ المُصلِّينَ ولُصوصَ الأحذيةِ هَجَروها رغْمَ وَفاءِ المُؤذنِ لمواعيدِ الصَّلاةِ/لمْ تُصدِّقِ الحاناتُ أنها تَخلَّصتْ مِنْ عَرْبدةِ مَجانينِها/اشْتاقَتْ لِنغماتِ عازفِ الكمانْ/تَركَتْ كُؤوسَها تبْكي في ظلامٍ اليُتْمِ/
لمْ يُصدّقْ ماسِحُ الأحذيةِ أنَّ الأزقَّةَ مصْدومةٌ/لَفَظَتْهُ بلا عَملٍ/لَعلَّ الحُكومةَ لا تَنْسى قوتَ أُسْرتِهِ/لمْ يَصَدِّقْ سائِقُ الطّاكسي كيْفَ انْقَلبَتِ الأحوالُ بِسُرْعةِ البَرْقِ/كيْفَ اخْتَفى المُسافِرونَ/تَضاعفَتِ المتاريسُ حينَ رخُصَ الكازوالُ/لمْ يَصَدِّقْ كيْفَ أنّهُ انْدَحرَ مثْلَ سَبّورَةِ القِسمِ/
بائعِ الخُرْدةِ والمسرحيُّ والمغَنّي/حينَ تسلّقَ الصّابونُ سُلَّمَ الأَوْلوياتِ/تبختر عَوْنِ السُّلطةِ/واستأسدت الكمامات.
وَحْدَها النّوافِذُ/ تشْرعُ أبْوابَها/ وحدها”
ومن كتاب العشق، ودواوينه الشعرية الكثيرة، قرأ الشاعر الإماراتي طلال الجنيبي: “ربما ما غاب ذاك العشق يوما/ واختفى من كان يغفو فوق حضني. بعض بعض العمر طعم مستمد/ من رذاذ الآن من سلطان لحن…”.
واختتمت الشاعرة بهيجة البقالي القاسمي حدائق الشعر، وهي تختار أزهارا من حديقتها الشعرية التي نشرتها في دواوينها الشعرية، منذ عملها الأول “هذيان رقم واحد”، الصادر في العراق سنة 2001، تليها دواوينها التي جعلت منها شاعرة الصمت المدوي شعريا، مثل ديوان “على نوافذ صمتك”، و”صراخ الصمت”، و”أنثى الصمت”… بينما تردد الشاعرة: “ويسألني من أنا؟/ أنا من عشقت القمر/ في سكون صمت السهر/ أنا من حملت الحب/ بين ثنايا صمتي”.
وتعد مدينة تطوان من المدن المغربية التي اشتهرت بالحدائق، على غرار باقي المدن المغربية العريقة، حيث شكلت الحديقة جزءا من جمالياتها العمرانية، وحيث كانت الحدائق امتدادا شعريا لفضاء البيت، فلا يكاد يخلو بيت من حديقة أو بستان أو جنان.
بل إن جهة الشمال، وبحكم موقعها وجغرافيتها، احتضنت أولى الحدائق في تاريخ الإنسانية، منذ فترات ما قبل الميلاد، ومن ذلك حدائق هسبريديس، التي انطلق منها الشاعر الراحل محمد الخمار الكنوني، ليؤسس للقصيدة المغربية المستندة إلى تاريخيتها الشعرية، عبر ديوانه “رماد هسبريس، الصادر سنة 1987.
وبحكم مناخها وتشكلها الجغرافي، فتطوان هي مدينة الحدائق بلا منازع، كما جاء في كتاب “الاستبصار في عجائب الأمصار”، حيث يقول “مدينة تيطاوين مدينة قديمة كثيرة العيون والفواكه والزرع، طيبة الماء والهواء”. وكما يقول مؤرخ تطوان الأستاذ محمد داود، فمن المعلوم لدى شيوخ تطوان أن الأرض التي تحيط بها أسوار المدينة وأبوابها السبعة لم تكن كلها مبنية، بل كانت فيها أماكن تغرص فيها الفواكه والأزهار بين باب التوت، حيث نتواجد الآن، وباب النوادر… ويرجع محمد داود كل ذلك إلى كثرة المياه ووفرة العيون التي تتفجر أمامكن من كل سقاية أو نافورة أو صهريج، حتى يوم الناس هذا…
وحينما نعود إلى صورة تطوان في الشعر المغربي خلال القرون الماضية، نجد هذا الحديث عن حدائق المدينة وجنانها وبساتينها. ومن ذلك قول الشاعر محمد بن الطيب العلمي صاحب “الأنيس المطرب فيمن لقيته من أدباء المغرب”، وهو يردد:
ألا قل لتطوان مقالة ذي عذر/ فتى هاجه من ساكنيه هوى عذري. ويا جنة من كل غم وجنة/ رأت أعيني الأنهار من تحتها تجري.
وقد تغنى الشعراء بمجالي وفضاءات تطوان وحدائقها، مثل ابن زاكور الفاسي، وهو يردد:
تطوان ما أكراك ما تطوان/ سالت بها الأنهار والخلجان. قل إن لحاك مكابر في حبها/ هي جنة فردوسها كيتان.
وكان الشاعر إبراهيم الإلغي، وهو شقيق المختار السوسي، قد احتفى في قصيدة فريدة له بهذه الحدائق والبساتين والمنتزهات والرياضات، متحدثا عن ساحة الفدان المجاورة لنا، ورياض العشاق، كما تحدث عنها حسني الوزاني في ديوان يحمل هذا الاسم، ثم عين بوعنان وجنان بوجراح وبساتين كيتان، حيث يقول:
مرج كيتان جنة/ زخرفتها يد القدر. كما تحدث عن نهر مرتيل، أو مرتين، وعن لا يبيكا” أو لامبيكا، كما تختصر اليوم، حيث يحمل ملعب سانية الرمل هذا الاسم. كما تحدث عن ريستينكا وبروجراح وغيرها، حيث كانت المنطقة كلها بساتين خضراء. وقد توجت قصيدته تلك بأولى الجوائز الشعرية المغربية منذ سنة 1953.