تقرير حول ضعف منظومة الإسعاف الطارئ في المغرب وتداعياتها على الأرواح البشرية
- ديسمبر 2025 –
تشهد المملكة المغربية ارتفاعاً مقلقاً في عدد الوفيات التي يمكن تفاديها، خاصةً تلك الناتجة عن حوادث السير، حيث بلغت 2922 وفاة خلال الفترة من يناير إلى أغسطس 2025، مسجلةً زيادة حادة بنسبة 23.8% مقارنة بعام 2024. كما تُمثّل أمراض القلب والشرايين السبب الأول للوفيات، مشكّلةً 23.4% من إجماليها، بما فيها 252 ألف حالة وفاة مرتبطة بارتفاع ضغط الدم. ويُصنَّف المغرب ضمن الدول التي تعاني من معدلات مرتفعة لهذه الأمراض. يُضاف إلى ذلك، النسبة الكبيرة من الوفيات المنزلية التي تزيد من ثقل هذه الإحصائيات.
1- *الأسباب الجوهرية لفقدان الأرواح*
إنّ غياب نظام إسعاف طوارئ وطني موحد وفعّال يُعدّ من الأسباب الجوهرية وراء هذه الوفيات. ويعود ذلك إلى الضعف البنيوي في الخدمات المتنقلة للمستعجلات والإنعاش الطبي، مما يؤدي إلى إهدار “الفرصة الذهبية” للإنقاذ بسبب التأخر في الوصول إلى المؤسسة الاستشفائية الأقرب.

وتُعد “الساعة الذهبية” بعد وقوع الحادث حاسمة لإنقاذ المصابين، لا سيما في حوادث السير التي غالباً ما ينتج عنها وفيات بسبب النزيف الحاد أو إصابات الرأس خلال الدقائق الأولى أو أثناء النقل. كما تتطلب الحالات الطارئة مثل الأزمات القلبية، والسكتات الدماغية، وضيق التنفس، والتسمم الحاد تدخلاً طبياً فورياً لإنقاذ الأرواح وتجنب تفاقم الحالة، بما في ذلك اللجوء أحياناً إلى الإخلاء الطبي الجوي السريع في المناطق الوعرة.
وتُشير الإحصائيات الوطنية إلى أن نسبة كبيرة من الوفيات تحدث أثناء النقل أو قبل الوصول إلى المستشفيات العمومية، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى نظام إسعاف سريع ومؤهل (Pre-Hospital Care)، قادر على تقديم إسعافات أولية حيوية (كإيقاف النزيف والإنعاش القلبي الرئوي) في موقع الحادث. إنّ استخدام سيارات إسعاف غير مجهزة بشكل كافٍ وغياب طاقم طبي متخصص بها، يؤدي بشكل مأساوي إلى وفاة عدد كبير من الضحايا أثناء عملية النقل.
واقع منظومة الإسعاف الطارئ في المغرب وتجربة “SAMU”
يُعتبر نظام ( Service d’Aide Médicale Urgente) الإطار الرسمي للمساعدة الطبية المستعجلة في المغرب، وقد بدأ تطبيقه تدريجياً منذ عام 2005 وتم تعميمه بعد 2012 بهدف تغطية جميع الجهات عبر الرقم 141.
إلا أن هذه التجربة ظلت قاصرة على بعض المدن الكبرى دون تحقيق الشمولية على الصعيد الوطني، مع معاناة واضحة من تفاوتات كبيرة في جودة الخدمات، ونقص في الموارد، وضعف التنسيق بين الفاعلين في السلسلة الإسعافية. ومما يثير القلق توقف العمل بنظام SAMU في المراكز الاستشفائية الجامعية بالرباط والدار البيضاء، وإغلاق بعض وحداته رغم الميزانية الضخمة التي خُصصت لهما.
كما تعاني أقسام المستعجلات بالمستشفيات الجامعية الرئيسية من اختلالات تنظيمية، اكتظاظ مزمن، نقص حاد في الموارد البشرية المؤهلة والتجهيزات الطبية، والأدوية الضرورية لإنقاذ الحياة.
2- *الاختلالات الأساسية في منظومة الإسعاف* (2025)
♧ تهالك أسطول الإسعاف وشلل التجهيزات الحديثة:
يُعاني أسطول الإسعاف (المقدر بحوالي 620 سيارة) من التقادم والأعطاب المتكررة التي تسهم في حالات وفاة أثناء النقل. ومما يزيد الأمر سوءاً، أن 90% من سيارات الإسعاف الحديثة (أكثر من 100 سيارة) التي تم اقتناؤها سنة 2015 بميزانية عالية (تتراوح تكلفتها بين 86 و93 مليون درهم) والمجهزة بأحدث التقنيات، ظلت غير مستغلة في الأقاليم والجهات. ويُعزى هذا الشلل إلى غلاء تكاليف الوقود والصيانة. وبالتالي، تظل المندوبيات الصحية تعمل بالسيارات الأقل من المعايير الدولية. هذا الوضع أدى إلى أزمة حادة في 2025، مع حوادث متكررة نتج عنها إصابات ووفيات بين المرضى والأطر الصحية.
♧ ضعف التنسيق البيني:
هناك ضعف حاد في التنسيق بين مختلف المتدخلين (الوقاية المدنية، مستعجلات المستشفيات، الجماعات المحلية، الأمن، والسيارات الخاصة)، مما يؤدي إلى فقدان فعالية 90% من النداءات وفقاً لبعض التقديرات، ويقوض منظومة الاستجابة الشاملة.
♧ النقص الكارثي في الأطر المتخصصة:
أشار تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في يونيو 2023 إلى أن عدد الأطباء المتخصصين في طب المستعجلات (طب الطوارئ) لا يتجاوز الثلاثين طبيباً مختصاً، ويتم تدبير معظم أقسام المستعجلات من قبل أطباء عامين وأطباء في طور التكوين التخصصي (داخليين). كما أن الأطر التمريضية المتخصصة لا تتجاوز 4000 ممرض على المستوى الوطني، مع ضعف واضح في برامج التدريب المستمر.
♧ التفاوت المجالي في التغطية:
يوجد تفاوت مجالي كبير على مستوى التغطية الإسعافية، خاصة في المناطق القروية والنائية، مما يحرم ساكنيها من حقهم في الرعاية الصحية الطارئة.
♧ تقادم الإطار القانوني:
يقتصر نقل المصابين في الطرق العمومية على الوقاية المدنية بموجب منشور وزاري صادر عام 1956، وهو إطار قانوني متقادم يعيق تكامل الجهات الفاعلة في القطاع تحت مظلة نظام موحد.
♧ أزمة الاكتظاظ في المستعجلات:
تواجه أقسام المستعجلات، بما فيها تلك التابعة للمراكز الاستشفائية الجامعية، اكتظاظاً ملفتاً، ونقصاً في الأطباء والممرضين المؤهلين، بالإضافة إلى أعطاب في التجهيزات وشح في المستلزمات الدوائية.
ويظل المصابون في قاعة الانتظار لساعات قبل تلقي العلاج، بينما تعتمد معظم الدول ذات المنظومات الناجحة معايير زمنية صارمة لوصول الإسعاف (*في حدود 5-10 دقائق للمناطق الحضرية*). وهذا الفارق الزمني هو ما يحسم بين الحياة والموت. وتعتمد هذه الدول على “نظام الفرز الطبي” (Triage) الدقيق والموحد، الذي يحدد أولوية العلاج بشكل فوري ومنطقي، لضمان تقديم الرعاية للحالات الحرجة خلال دقائق معدودة (*عادة أقل من 15 دقيقة*)، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً في المغرب.
3-* نماذج عالمية ناجحة للإسعاف الطارئ*
تعتمد عدة دول نماذج ناجحة لإدارة الطوارئ الصحية. منظومة SAMU الفرنسية الأصل هي مرجع عالمي يقوم على فلسفة “نقل المستشفى للمريض”، عبر إرسال طبيب وممرضين وسيارة إسعاف مجهزة كوحدة عناية مركزة متنقلة لتقديم الرعاية الحرجة في مكان الحادث قبل النقل والتكامل مع المستشفيات، خاصة الجامعية، كمراكز استقبال للطوارئ.
لكن هناك أيضاً نماذج ناجحة أخرى حول العالم تركز على نقل المريض إلى المستشفى بأسرع وقت ممكن وبأعلى مستوى من العناية الممكنة في الطريق. وتعتمد هذه الأنظمة على:
-مراكز تنظيم موحدة للنداءات
تقنيات متطورة كالـ (GPS) وأنظمة المعلومات الجغرافية لتحديد المواقع.
-تدريب مستمر للأطر الطبية والتمريضية.
-بروتوكولات علاج موحدة ودقيقة على مستوى الدولة أو المنطقة.
*استجابة إسعافية في مدة تقل عن 10 دقائق*، مما يقلص الوفيات ويحسن نسب النجاة، مع كفاءة عالية في التعامل مع النوبات القلبية والصدمات.
*التدخل الجوي*: إمكانية الاستعانة بالمروحيات الطبية في المناطق الجغرافية الصعبة والنائية.
4-* التحديات والانتظارات الملحة*
تتزايد الحاجة الملحة لإصلاح المنظومة الوطنية للإسعاف الطارئ، نظراً للكثافة السكانية، وتصاعد الحوادث والأمراض المزمنة، والاستعدادات لاستضافة تظاهرات دولية كبرى تتطلب بنية تحتية طبية استعجالية متطورة وموثوقة.
السؤال الجوهري: كيف يمكن للمغرب تفعيل نظام إسعاف طارئ وطني موحّد وفعال يتجاوز التحديات البيروقراطية واللوجستية والبشرية الراهنة، لضمان الحق في الحياة والوصول للرعاية في الوقت المناسب؟
5- *توصيات الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة*
تؤكد الشبكة على ضرورة اتخاذ الإجراءات التالية بشكل عاجل:
♧ الإطار القانوني والتنظيمي:
إقرار قانون إطار موحد لتنظيم منظومة الإسعاف الطارئ على الصعيد الوطني، ضمن مؤسسة عمومية مستقلة ذات فروع جهوية ومحلية، مع تمويل مستدام وتزويد بالتجهيزات الطبية الحديثة.
مراجعة وتحديث الإطار التنظيمي القديم (منشور 1956) للسماح بالتكامل والاندماج بين جميع الفاعلين المؤهلين (SAMU، الوقاية المدنية، القطاع الخاص، الجماعات المحلية) تحت مظلة النظام الموحد.
♧ التكنولوجيا والخدمات:
إنشاء مركز وطني موحد لتنظيم النداءات (Centre de Régulation) يعتمد على تكنولوجيا حديثة (GPS وأنظمة جغرافية معلوماتية) لضمان توجيه سريع ودقيق للإسعاف.
تحديث أسطول سيارات الإسعاف المتقدمة لتغطية كل أنحاء البلاد، مع اعتماد معيار سيارة إسعاف لكل 10,000 نسمة على الأقل.
♧ الموارد البشرية والتدريب:
وضع برنامج وطني لتكوين وتأهيل الأطر الطبية والتمريضية والتقنية في طب المستعجلات، بهدف تدريب وتأهيل 400 تقني سنوياً لملء الخصاص.
♧ الحكامة والتمويل:
-تقوية التنسيق الفعّال بين مختلف المتدخلين.
-إعادة هيكلة وتنظيم وتجهيز أقسام المستعجلات ونظام تدبيرها وتمويلها وفق معايير التجارب العالمية الناجحة.وتنظيم شراكة حقيقية بين خدمات الإسعاف والطوارئ و مستعجلات المستشفيات الجامعية و المستشفيات الإقليمية والجهوية في إطار كل مجموعة صحية ترابية
-إدراج خدمات الإسعاف والطوارئ ضمن نفقات وتغطية التأمين الصحي (AMO) لضمان الاستدامة المالية للنظام.
-تبسيط الإجراءات الإدارية وتعزيز اللامركزية لتسريع الاستجابة في المناطق النائية.
إن تطوير منظومة إسعاف طارئ وطنية متكاملة وفعالة يشكل استثماراً استراتيجياً في صحة المواطنين، وهو الضامن الأساسي للحق في الحياة، ويمكن أن ينقذ حياة عدد كبير من ضحايا الحوادث والأمراض الطارئة في بلادنا.
*الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة*
*علي لطفي*


































