لا ينكر أحد ما لجمعيات ومنظمات المجتمع المدني عبر التاريخ الطويل للإنسانية من تأثير على المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ظهرت وترعرعت وتطورت فيه مبادئ ومفاهيم وقيم حقوق الإنسان، خاصة القرن الماضي والعقدين الأولين من هذا القرن، حيث أصبحت تعرف فيه ” عالميا بـ(المنظمات غيرالحكومية) التي تحميهاالمادة22 من العهدالدوليالخاصبالحقوقالمدنيةوالسياسية. واعتبرت هذه الجمعيات منالعناصرالفاعلةالرئيسيةفيالمجتمع الدوليفيمايتعلقبحمايةحقوقالإنسانوتعزيزها,وفيإطارالأممالمتحدةتطورتهذه الجمعيات إلى أنأصبحتتشكلمايمكنأننطلقعليهضميرالعالم. فهي غالبًاماتسعىإلىحمايةبعضالمصالح المحددةمثلحريةالتعبيروحريةوسائلالإعلامأوحظرالتعذيبوالمعاملةالمهينةوالحاطّة بالكرامة الإنسانية كما تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف النبيلة في التنمية والتعليم والصحة وغيرها من المجالات الحقوقية.” (1)
وعبر هذه السنوات الطويلة، ناضلت ولا تزال جمعيات ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان من خلال نشطائها الجمعويين من أجل أن يتمتع الناس بكافة حقوقهم المدنيةوالسياسيةالمرتبطةبالحريات،وتشمل:الحقفيالحياةوالحريةوالأمن وعدمالتعرضللتعذيبوالتحررمنالعبودية؛ والمشاركةالسياسيةوحريةالرأيوالتعبيروالتفكيروالضميروالدين؛وحريةالاشتراكفيالجمعياتوالتجمعات. وكذلك الشأن بالنسبة للحقوقالاقتصاديةوالاجتماعية المرتبطةبالأمنوتشمل: العملوالتعليم والتمتع بمستوىلائقمن العيشوالمأوىوالرعاية الاجتماعيةوبيئة آمنة ونظيفةومصونةمنالتدمير، والحق فيالتنميةالثقافيةوالسياسية والاقتصادية.
تشكلت النواة الحقيقية الأولى لحركة حقوق الإنسان في المغرب مع نهاية الخمسينات، وعرفت انتعاشا في العقدين الأخيرين من هذا القرن، حيث عرفت تنظيماتها توسعا وانتشارا ملحوظا، وأخذت في التكاثر بعد أن كان عددها لا يتجاوز رؤوس الأصابع.وبالرغم من كل أشكال التضييق الذي مورس عليها، والمحاولات المتعددة لاحتوائها من طرف بعض الأجهزة الحكومية، قاومت هذه الحركة وبرز نشاطها في العديد من القضايا، وباتت محط اهتمام قطاع واسع من الجمهور والمهتمين والباحثين، كما لفتت إليها انتباه الأجهزة الرسمية والتطوعية، سواء بالعمل العام أو عبر ما كانت تتلقاه وتتعاطى معه من تظلمات وشكاوى المواطنين، والتي كانت غالبيتها تتعلق بانتهاكات لحقوق الإنسان.
والمهتمون والمتتبعون لنشاط الحركة الحقوقية في المغرب يلاحظون أن وضع حقوق الإنسان في المغرب حتى وإن كان يعرف تحسنا إيجابيا إلا أن إيقاعه بطيئا.
وجاء دستور 2011 كنتيجة لجهود الحركة الحقوقية المغربية، وبفعل بعض الأحداث الإقليمية والمحلية. ورغم ضمه لفصول ومواد ومضامين تشير إلى تعزيز وتكريس الحقوق والحريات الأساسية، بالإبقاء عليها كمكاسب دستورية تاريخية، وتنصيصه على ترسيخ مبدأ سمو المواثيق الدولية، وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو القيم أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة، وما رافق ذلك من سن بعض النصوص التنظيمية والقانونية التي تروم نحو إعمال وتعزيز الحقوق والحريات كما في المجتمعات الديمقراطية المتقدمة. إلا أن ما يلاحظ ويسجل على أرض الواقع، أن هذه الحقوق التي أقرها هذا الدستور لا زال معظمها حبرا على ورق، وحتى التي تم الشروع في إعمالها كاملة أو لبعض من أجزائها مازال يراوح مكانه. كما يلاحظ ويسجل أيضا، أن بعض هذه الحقوق لا زال ينتهك علنا من طرف بعض المسؤولين في الدولة، الذين لا يفتئون بين الفينة والأخرى من اتخاذ إجراءات قمعية أو قرارات تعسفية، تلحق أضرارا مادية ونفسية بالمواطنين. ويعزي بعض المهتمين والمتتبعين للشأن الحقوقي في المغرب ذلك، إلى عدم وجود رغبة وإرادة حقيقية لدى بعض الدوائر والمؤسسات في الدولة نحو تعزيز وتكريس دولة الحق والقانون، مما يسمح بمزيد من مظاهر التحكم والفساد والتمييز والريع بالتمدد وبالاستشراء في كثير من أجزاء ومفاصل الدولة ومؤسساتها. لكن البعض الآخر يعزي ذلك بالأساس إلى وجود مجتمع مدني وجمعيات ومنظمات حقوقية ضعيفة نسبيا، مع تسجيل غياب لحضور قوي للنشطاء الجمعويين المدافعين والمربين على قيم حقوق الإنسان، بسبب ضعف خبرتهم وتكوينهم وأدائهم المتعلق بالتربية والتثقيف والرصد والحماية والدفاع عن حقوق الإنسان بشكل أفضل.
ومن خلال زياراتي وإطلاعي على جزء كبير من الرصيد الوثائقي بأرشيف مجموعة من منظمات وجمعيات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان،واللقاءات التي جمعتني بنشطاء حقوقيين ينتمون لهذه المنظمات والجمعيات، عاينت ما يلي:
1ـ تواجه أغلب منظمات وجمعيات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان صعوبة تتمثل في النقص الكبير الحاصل في تدريب وتكوين وتأهيل نشطائها الجمعويين المدافعين والمربين على قيم حقوق الإنسان، الذين يعتبرون الإسمنت المسلح والطاقة المحركة لهذه المنظمات والجمعيات.
2ـ يشعر الناشط الجمعوي المدافع والمربي على قيم حقوق الإنسان بضعف أدائه الحقوقى والإنساني والتواصلي، ولعدم امتلاكه المعارف والمهارات والكفايات والإقتدارات اللازمة التي تطور من أدائه.
3ـ يلاحظ غياب شبه تام لرصد حقيقي وشامل للاحتياجات التدريبية الخاصة بالناشط الجمعوي عند تخطيط أنشطة التدريب والبرامج والدورات التدريبية المنظمة أو المعتمدة من طرف منظمات وجمعيات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان، ونتيجة ذلك فإن هذه البرامج والمناهج التدريبية قد لا تتلاءم مع احتياجات الناشط ولا تحقق أهدافها وغايات تنظيمها.
4ـ لا يستفيد الناشط ولا منظمات وجمعيات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان من التدريب بالشكل الصحيح، نظرا لغياب آليات التقييم والمتابعة المتعلقة بأنشطة التدريب وبناء ودعم قدرات النشطاء.
وبناءا على المعاينات السابقة، ونتيجة للصعوبات والتحديات المذكورة، فيلاحظ أنها تحيل على أن المنظمات والجمعيات الناشطة في مجال حقوق الإنسان لا تمتلك رؤية واضحة للتدريب، مما يجعلها لا تدرك أهميته في بناء وتطوير قدراتها البشرية والمؤسساتية، وهذا ما يحد من قدراتها ـ رغم عقود من تواجدها ونشاطها في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ـ إلى النفوذ إلى كل الشرائح المجتمعية بالتوعية والتربية والتثقيف على حقوق الإنسان، وتوظيف كل أشكال المرافعات المتاحة لها، وممارسة الضغط على السلطات، ودعوة الدولة لبذل المزيد من الجهود للوفاء بما قبلته من التزامات دولية بتصديقها على المعاهدات، وباحترامها للقانون الدولي، والوصول إلى إحداث تغييرات مجتمعية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحقق الإنصاف والكرامة والعيش الكريم لجميع فئات المجتمع.
وبالرغم من وجود تراكمات لجهود بذلت من طرف النشطاء الجمعويين المدافعين والمربين على قيم حقوق الإنسان المنتسبين لهذه الجمعيات والمنظمات، إلا أنها لم ترق إلى المستوى والطموح المطلوب في النهوض بقيم حقوق الإنسان وتعريف الناس بحقوقهم، وتمكينهم من آليات المطالبة بها، ولا زالت ولادة الفعل الحقوقي المؤثر في المغرب عسيرة ومستعصية.
كما أن منظمات وجمعيات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق الإنسان لم تحرز تقدما وازنا في تطوير استراتيجياتها وأدواتها وأساليبها في التربية والنهوض بثقافة حقوق الإنسان في أوساط المجتمع، حتى يتشبع الناس بها،. ويمكن إرجاع ذلك إلى مجموعة من الأسباب، على رأسها ضعف أداء مواردها البشرية، وعلى الخصوص فئة النشطاء الجمعويين المدافعين والمربين على قيم حقوق الإنسان، فهؤلاء لم يحظوا بالتدريب النوعي المطلوب، الذي يمكنهم من اكتساب المهارات والقدرات التي تطور أداءهم الحقوقي والتربوي والتواصلي والمعرفي والميداني المؤهل للتعامل مع كل القضايا الحقوقية باقتدار، ويمكنهم من التحرر صحبة منظماتهم وجمعياتهم من التمركز في خطاباتهم ونشاطاتهم على الاستعراضية والأساليب التقليدية، وهيمنة وغلبة البعد السياسي المغلف بالحزبي في التوجهات والأنشطة، إلى العمل والتركيز على النهج الحقوقي العلمي المهني والحرفي، بمنهجيات مدروسة، وبمقاربات وأدوات حقوقية صرفة.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) الدفاع عن حقوق الإنسان: كتاب المَوارد للمُدافِعينعن حقوقالإنسان،ص 4 .